حسين الرواشدة
قد يكون لديك -مثلي تماما - عشرات الملاحظات على تجربة بلدنا السياسية وعلى “الفساد “ الذي ضرب مجتمعنا، وقد تعارض الحكومات وسياساتها والنخب وصالوناتها، وقد تشعر “بالاكتئاب” بسبب الاحوال الاقتصادية الصعبة والتحولات الاجتماعية المفزعة، لكن أرجو ان تنتبه دائما بأن “جحيم” بلدك افضل مئة مرة من “جنة” الآخرين.
قد تقول لي : إن الاحساس بالخيبة وافتقاد الامل سيقودنا الى الطريق “الوعر” وبأن ما يحدث في بلادنا من “فوضى” ومن ارتباك ومن تصاعد في “نبرة” اليأس والخوف، ومن سوء في تقدير الموقف ومن مماطلة في تنفيذ “خرائط الطريق” التي سمعنا عنها ولم نرها، يجعلنا نضع ايدينا على قلوبنا.
لا أقلل هنا بما وقع على مجتمعنا من إصابات أفقدته بعض قيمه التي ألفناها فيه، أو بما طرأ عليه من تحولات وسّعت فيه دوائر الفقر والاحباط، وأخلّت بما كان عليه من توازنات، ولكنني انظر الى الصورة والاطار، واتفحص وجوه “الأغلبية” التي ما تزال تحافظ على نقائها وصبرها وعفتها ونظافة يدها وضميرها، وتبدأ يومها مع صلاة الفجر لتسأل الله “الستر” والعافية، وتنشغل بتعليم الاولاد، وتوفير ما يلزمهم من متطلبات بالتعب والعرق، كل هذا يؤكد ان دوائر الخير في مجتمعنا ما تزال هي الاوسع، وهي الاقدر على الحركة خاصة اذا ما توفر لها من يخاطبها ويستثمرها بحكمة واقناع.
صحيح، يشعر المواطن - اكثر من اي وقت مضى - بالقلق، لان ثمة احساسا متزايدا ومبررا ايضا قد تنقصه المعلومات بالخوف والترقب والحذر مما قد تحمله المرحلة القادمة من مفاجآت، فالاقليم الذي يقاسمنا المستقبل بدأ يتعرض لما يشبه اعادة التشغيل - لكي لا نقول التشكيل - على وقع ادارة امريكية جديدة، وحكومة اسرائيلية تريد ان تستثمر هذا الضعف لاعادة الاعتبار لدولتها وجيشها ووجودها ايضا، وواقع عربي مشغول بتفاصيل قضاياه ومشكلاته، ومشدود الى ازمات سياسية واجتماعية تعيقه عن التفكير بقضاياه الكبرى .
بلدنا ليس بعيدا عن حمى هذه المستجدات الدولية والاقليمية، ومن واجبنا ان نفهم ما يطرح من افكار وسيناريوهات، او ما يدور من حوارات ومطارحات، فقد انتهت على ما يبدو مرحلة الاسترخاء السياسي، وحان وقت المصارحات التي تفضي الى مزيد من المصالحات، والابتعاد عن السجالات العبثية واحتكار البعض لمفاتيح البدائل والحلول والاقتراحات، واذا كان لي ان اجتهد فانني ادعو - وبحرارة - الى التفكير باشهار مشروع وطني قادر على حشد الناس واستثمار طاقاتهم وتوحيدهم حول هدف واحد: حماية البلد مما قد يتعرض له من اخطار، والدفاع عن هويته ووجوده ومستقبله، وهو مشروع يتجاوز محاولات طلاء الجدران، الى بناء العقول والقلوب والمواقف والخيارات على ارضية المواطنة الصلبة، والانتماء الحقيقي والمشاركة العادلة، والوعي الصحيح على ما يختزله المشهد السياسي من تحديات، وربما مغامرات.
صورة مجتمعنا الحقيقية لا نراها على شاشات التلفزة، ولا تجد من”يروّج” لها او يغطيها بما يلزم من ندوات واتجاهات معاكسة، ولايعرفها -ايضا - بعض الذين عاشوا “اسرى” في مكاتبهم، او في ابراجهم الفكرية و”اطماعهم” السياسية، لكنها -واقول بمرارة - موجودة ومتاحة لمن يريد ان يراها على حقيقتها، هناك في بلداننا واريافنا ومدننا وقرانا ثمة “اغلبية” غير صامتة، تتكلم ولكننا لا نريد ان نسمعها، تعبّر عن جوهر انتمائها وايمانها بالبلد وقيمه ومستقبله ولكننا نغلق لواقطنا فلا تصلنا ذبذباتها، ترفض كل ما يطرح اليوم من دعوات “لنبش” القبور او تعميم منطق الفوضى، او اختطاف “بوصلة” البلد، او تهويل الازمات او بث الخوف والرعب في الصدور.. تضرب اروع “النماذج” في التكافل والعون والسماحة والايثار، تقدم لنا الاردني الذي انسحبت مراصدنا البحثية عن “تعريفه” وفهم شخصيته، وتطمئننا على حقيقة لطالما تجاهلناها” حقيقة “الوعي” والذكاء والاستشراف التي اختطفها بعض “النخب” فيما هي اكثر لصوقا بالاردنيين الطيبين .. وانتماء اليهم، وانعكاسا عنهم.. هؤلاء “الناس” هم الذين يعلموننا كيف نفتح عيوننا على الحاضر والمستقبل، وكيف نتبصر طريقنا الى الامام، وكيف نعلو على منطق “الصفقات” ومناهج “توزيع” المكتسبات وكيف “نتوحد” على الهدف والعمل، وننأى عن الانشغال بالتفاصيل التي لا تبني وطنا.. ولا تدفع خطرا.. ولا تحمي بلدا ولا تقيم “اصلاحا” ولا تدفع فقرا.
عن الدستور