إن من يتأمل الواقع الذي آلت إليه أوضاع البلد يخرج بنتيجة واحدة مضمونها
"لا نية للإصلاح "...
وإذا ما مكنتك الفرصة من الجلوس مع أي مسؤول حالي أو سابق وتطرقت معه إلى
الحديث عن وضع البلاد ، تجده يتكلم بلسان حالك ، مع الاختلاف في زوايا النظر ،
التي تمنحك دائما قراءة إثرائية أكثر عمقا وإدراكا للمشكلة والأسباب معا ، وبها
تدخل في دوامة من التحليلات تخلص منها إلى اليأس أحيانا ، والتسليم بأنه ليس
بالإمكان أفضل مما كان .
وإذا ما أردنا أن نتحدث بعقلانية وإنصاف فيجب علينا الاعتراف بالواقع بجميع
مكونات حالته ، والكل شريك بشكل مباشر أو غير مباشر فيه .
وكيف كان ويكون ذلك ؟؟
لعل من أهم الأسباب التي قادت إلى احتقان الشارع وقناعة الرأي العام بمقولة
: "لا نية للإصلاح" ،هو تركيز النظر على جانب واحد : أعمال وقرارات
المسؤول ونتائجها ،وإغفال أو عدم السعي إلى فهم أسبابها ، وتجاهل زوايا النظر
الأخرى إلى مكوناتها كحزمة واحدة .
وهذا يقود أيضا إلى الاختلاف في "حد "الفساد وأسبابه بين العامة والمسؤول ، فلو أجريت
استبيانا ووزعته على مختلف فئات الشعب من مثقفين وغيرهم ، ومن مسؤولين على اختلاف
مراتبهم وعلى عامة الناس ، لخرجت بمنظومة
مترامية الأطراف ، متداخلة ومتقاطعة ومتنافرة في معظم مفاصلها ، فالمسؤول
يرى الفساد من وجهة نظرمختلفة عما تراه العامة ، والعامة ترى الفساد من وجهة نظر
مختلفة كذلك .
وما يزيد الأمر تعقيدا أن المسؤول عاجز عن إيضاح وجهة نظره وإقناع الناس
بها ،وليس لديه وسيلة مساندة تكفيه عبء
ذلك ، والعامة ينصرف نظرها عند سماع مصطلح "الفساد" إلى المسؤول
مباشرة ، ناهيك عن أن بيئة الثقة لم تعد
متاحة بين جميع أطراف القضية ؛ لذا بات كل من يتقلد منصبا في الدولة متهمًا
بالمشاركة في اللعبة ، أو باع نفسه للدخول إلى حلبة المشاركة التي تفضي في النهاية إلى وضعه ضمن قائمة
الفاسدين .
نُقل عن أحد المسؤولين الحاليين في الحكومة ، وكان قبل ذلك نائبا في مجلس
النواب ،ومن الأقطاب التي اتكأ عليها المجلس حينئذ فيما يتعلق بالتشريعات
والقوانين ، وعلى أثر حوادث قتل كانت محور حديث الشارع باستخدام الأسلحة النارية ،
أنه قال: لقد حاولنا سن قوانين وتشريعات لضبط امتلاك وجريان السلاح بين أيد الناس
، لكن واجهتنا هجمة شرسة من قوى المعارضة والرأي العام جعلت المقصود من هذه المحاولة تجريد العشائر من أسلحتها والتآمر عليها، بينما
كان المحرك الرئيس لطرح القضية على مائدة المناقشة تحت القبة هو تقارير صادرة عن
مؤسسات وطنية ودولية تبين أن عدد القتلى بسبب الاستخدام الخاطئ أو المتعمد للسلاح
يفوق عدد الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن الوطن في معظم معاركه ، وأن معظم هذه
الأسلحة المتسببة بالقتل غير مرخصة .ومن وجهة نظر شخصية - وأذكر ذلك الأمر جيدا -
مشيت برأيي مع الرأي العام ، خصوصا أن طرح القضية
تزامن مع حديث الشارع وبعض المحطات الإعلامية عن قضية الوطن البديل ،
فتجمعت الظروف لتجعل من هذه المحاولة تهمة بالتآمر على الوطن وأبنائه ، وتوجهت
بوصلة الهجمة إلى القائمين على إعداد هذه القوانين ، متهمة إياهم بالخيانة والعمل
لأجندات مشبوهة .
والحديث في مثل هذه الأحوال يطول ، لكن الخلاصة التي أراها من وجهة نظري :
هي الحاجة الماسة إلى التوضيح والمكاشفة لكل عمل رسمي ، وتحمل النقد والجلوس مع
جميع الأطراف الرافضة ، وإتاحة كل القرارات الرسمية للحوار والمناقشة ، واستيعاب
وجهات النظر الأخرى ودراستها وتحليلها ، ومحاورة أطرافها مهما كانت مصادرها .