لا شك أن كل من يذهب إلى عملة في مدينة
عمان يدرك جيداً كم هي ثقيلة ومستفزة حالة الاكتظاظ والازدحام، فأغلب الناس يقضون
أوقات انتظار طويلة مملة يشوبها التشنج والعصبية في أكثر الأحيان، ورغم أن أمانة
المدينة تتلقى من ساكنيها رسوماً سنوية على المباني تُعرف بالمسقفات، إلا أنه لا
يبدو على المدينة مظاهر الصيانة الدورية المنتظمة لا للشوارع ولا الأرصفة أو
المظهر الجمالي فالإهمال في هذا الجانب يبدو جلياً بمجرد قيادة السيارة لبضعة كيلو
مترات.
لكن في الآونة الأخيرة تصاعد الحديث عن
نية الحكومة بناء مدينة جديدة على بعد 40 كم من عمان، وهو بدون شك خبر مفرح قد
يحرر عمان من ازدحامها وحالة الفوضى اليومية التي تعاني منها، لقد استمعت بإمعان
لجميع النقاشات عن تلك المدينة، كنت سعيداً للغاية بهذه الأخبار الجميلة وقررت منذ
اللحظة الأولى أن أكون واحدا من قاطنيها، لكني فطنت إلى نفسي وبدأت أقيس الأمر
بطريقة بعيدة عن الحماس والنشوة الوطنية، فأنا أعمل في عمان ويفترض أن أذهب وأعود
يومياً، وعلى فرض أن الجهات المعنية أنشأت شبكة نقل متطورة منها وإليها لكن في
النهاية ستوصلني هذه الى نقطة محددة وبعدها سأدخل إلى عمان بزحمتها الخانقة وسأدخل
في نفس المعاناة من جديد طبعاً أنا لا أستطيع أن انقل عملي للمدينة الجديدة لأنه
حتى هذه اللحظة لا اعتقد انها توفر لي فرصة لذلك، بعدها خطر ببالي ماذا سيحل
بمنزلي الحالي طالما أن الحكومة ستوفر أماكن جديدة ومتطورة وبأسعار مغرية، فسينخفض
سعر منزلي وأكون خسرت وقتي وأيضا جزءا من ثمن عقاري، وتوالت الأسئلة على هذا
المنوال وكي أواسي نفسي على فشلي في أن أحظى بسكن المدينة الجديدة عُدت الى مقولة
شكسبير (ما هي المدينة إلا البشر) مكنتني هذه العبارة من تجاوز إحباطي.
دفعتني أسئلتي الغبية تلك أن أذهب
بعيداً فرجعت الى مسيرة إنشاء هذه المدن عبر العالم، فهي غالباً كانت استجابة
لحاجة سكانية ملحة نتجت عن تجمعات صناعية مثلما حدث في أوروبا وبعدها في دول شرق
أسيا حيث كانت الطفرات الصناعية التي ولدت الحاجة لإسكان أعداد كبيرة من الناس
بالقرب من أماكن عملهم فتم بناء تلك المدن لتخفف من معاناتهم لا أن تزيدها،
والحالة الثانية عندما يتوفر فائض مالى لدى بعض الدول وتقرر بناء مدن للترفيه
والمتعة، إذاً طالما لا تتوفر العناصر الملحة السابقة فالسؤال يطرح نفسه هل من داع
لهذه المدينة ؟ علماً بأن خبراء العقار يؤكدون أن هناك عشرات الآف من الشقق فارغة
في عمان والزرقاء بالإضافة إلى ان ثلث الأراضي الفارغة لا تزال جاهزة للبناء.
أما إذا كانت الحكومة تريد حلّ مشكلة
الطفرات السكانية فعليها أن تدرس مصادرها ففي جُلها ليست ناتجة عن التزايد الطبيعي
في سكان المدن بل بسبب الهجرات المتكررة إما من الإقليم وهذه مسؤولية المنظمات
الدولية أو من المناطق الريفية والبدوية التي تفتقر الكثير من المقومات للعمل
والعيش، وهنا الأجدر بالحكومة ألا تقفز الى الأمام بإيجاد حلول ترقيعية بل عليها
ان تعود الى واقع هؤلاء وتعيد إنعاش الوضع فيه بحيث يصبح قابلاً للعيش والعمل
وربما وقتها نشهد هجرة معاكسة تخفف العبء على المدن الرئيسية ومنها عمان.
في محاججتي مع نفسي وأنا البعيد كل
البعد عن الهندسة وتخطيط المدن فشلت تماماً في أن أجد لنفسي مبررا مقنعا للسكن في
تلك المدينة المنوي إنشاؤها، وكان السؤال المعقد لماذا إذا؟ وهنا أفترض أن
الحكومات أفقدت الدولة أغلب أصولها عبر مسيرة من البيع خلال عملية الخصخصة وهي
ايضاً لم تستطع أن تقوم بعد ذلك بعملية تنمية شاملة تستثمر فيها تلك الأموال ولم
تستطع أن تحافظ على نسب نمو مستدامة بسبب افتقارها الى المواهب السياسية والإدارية
اللازمة لذلك هي بحاجة الى رفع وهمي لنسب النمو وهي الطريقة الفاشلة التي تخلت
عنها أغلب الدول وبالتالي تريد الحكومة استحداث أصول جديدة لبيعها وليس أمامها
الآن سوى الأراضي لاستثمارها ولو كلف ذلك نقل دوائر الدولة وموظفيها قسراً الى
المدينة الجديدة كي تزيد القيمة العقارية لتلك الممتلكات بغض النظر عن المعاناة
التي سيتكبدها المواطنون.
لذلك يجب أن تناقش الفكرة بكل أبعادها
بعيداً عن لحظات النزوات والرغبة في تحقيق مكاسب وهمية لن تؤدي إلا الى مزيد من
الخسائر التي ستفاقم فقدان الثقة بإدارات الدولة وبأنها قادرة على اجتراح حلول
عقلانية لما يعانيه البلد من أزمات اقتصادية واجتماعية، أما أنا فسأستمر بطرح
أسئلتي الغبية في زمن المدن الذكية والتي لم أجد حتى اللحظة تفسيراً واعياً
لمعناها.