لا يتوقف السياسيون عن التذمر من تراكم
أعداد خريجي كليات الطب والهندسة والحقوق وال IT
وغيرها من التخصصات، حتى أن هذا التذمر أصبح يشكل السمة الغالبة على لقاءات
المسؤولين وتصريحاتهم التي لا تنتهي، لدرجة أنهم وضعوا الخطط المحكمة لاستثمار هذه
الكفاءات بتصديرها للخارج، للاستفادة من عوائد عملها بالعملات الصعبة جداً وهم
يعتبرون عملهم هذا بمثابة إنجاز عبقري، بل ويتباهون بالأرقام التي استطاعوا
تصديرها لدول الجوار ويعتبرون ذلك أقصى حدود طموحاتهم، طبعاً هذا هو حال سياسيي
الصدفة هؤلاء لن يفطنوا أبداً ان الاقتصاد الآن يعتمد على الفكرة وأن هؤلاء ما هم
إلا كنز لا يجب أن يُهدر وهم من ينتج اقتصاد المفاهيم بدل اقتصاد المداخن على
أهميتها وما يقهر أننا نضيع هذا الكنز الذي دفعنا لأجله جهود الآباء والأجداد
عرقاً تصبب بلا حدود وجهداً لم يُبخل به لأجل المستقبل، كل ذلك أحبطه سياسي وإداري
لا يملك حصافة التخطيط للمستقبل.
قُدر لي أن أكون عضواً في مؤتمر معني
بالسياحة العلاجية ينعقد في عمان وأتاح ذلك لي التقاء العديد من الوفود المشاركة
وبقدر ما كان إعجابهم بمستوى الأطباء والطب في الاردن وحجم الخبرات الموجودة سواء
على مستوى المستشفيات او الكوادر العاملة لكنهم في مجملهم بالذات القادمون من
أسواقنا التقليدية اشتكوا من صعوبة الوصول والتعقيدات البيروقراطية الأخرى إذ يضطر
المريض القادم من الجزائر او ليبيا مثلاً للذهاب الى تركيا قبل الوصول الى عمان
وهي رحلة طويلة ومكلفة، وهنا تعود بي الذاكرة الى سنوات ليست بالبعيدة حينما كان
الاردن ينطلق بشكل ممتاز على مستوى الإقليم في خدماته الطبية والعلاجية وبدأ يشق
طريقه ليكون وجهة عربية وإقليمية للسياحة الطبية هذه الانطلاقة كادت تضعه في مصاف
الدول المتميزة في هذا المجال الى أن جاء أحدهم وقرر أننا يجب أن نغلق الأبواب
خشية أن يتسرب منه إرهاب الربيع العربي، فأغلق بذلك تدفقات المرضى من دول عديدة كانت
ترفد الأردن بمئات الملايين من الدولارات، وبنفس وقت اتخاذ هذا القرار الشائن فتح
الباب أمام آلاف الأطباء ليهيموا على وجوههم في دول العالم بحثاً عن فرصة تسعف
طموحاتهم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تفاقم
الأمر مع جائحة كورونا والتي أُغلقت فيها كل منافذ الأمل ففي الوقت الذي كان يجب
أن تكون عمان مُلتقى الراغبين في الحصول على علاج متخصص ومحترف وجدنا السياسيين
مرةً أخرى يغلقون أبواب الفرج، ويفاقمون رحلة المعاناة لهذا القطاع، ودليلي على
أنهم ارتكبوا جرائم بحق هذا القطاع أنه في نفس الوقت الذي كنا نغلق فيه الأبواب
كان غيرنا يستثمر الفرصة، ويفتحها على مصراعيها رغم ان التداعيات الارهابية
والوبائية والاخطار الأمنية كانت واحدة، وأنا هنا أقصد تركيا وبعض الدول العربية
والتى كانت ذروة إقلاعها في نفس الأوقات التي قررنا فيها التراجع، وهم الآن في
ذروة تألقهم ويحتلون المكانة التي كنّا ذات يوم نطمح اليها، وأعود إلى المؤتمر حيث
أقر الجميع بغياب ناقل وطني يسهل وصولهم الى عمان، وكان ذلك بمثابة الصدمة
فالملكية من أوائل شركات الطيران في المنطقة ومع ذلك تعجز عن مواكبة حلم قطاع طبي
عريض، يطمح إلى وضع بلده من جديد على خارطة المنافسة الإقليمية على أقل تقدير ألا
يدعو ذلك الى الاستهجان والغضب بغض النظر عن المبررات فالنصر له مبرر واحد أما
الهزيمة فلها آلآف المبررات.
هل يعقل أن بلدا فيه مئات الآلاف من
الخريجين ذوي الاختصاصات العالية ولا يجد طريقه إلى المستقبل في الوقت الذي كان
يجب أن يكون فيه منارة للمنطقة في كل المجالات؟ ولن نجد صعوبة كبيرة في اكتشاف من
أجهض حلمهم، وحولهم إلى مجرد متسكعين على أبواب سفارات الدول المختلفة، أملاً في
الحصول على فرصة بعد أن أوصدت الأبواب في وجوههم، لكننا يمكن أن نعود طالما أننا
نمتلك كل هذه الطاقة البشرية وهي تحتاج الى قرار واحد وهو أن تعفيها الحكومات من
قراراتها، فكلما درستُ قطاعًا أصابه الإخفاق او الذبول وجدت أن قراراً حكومياً كان
وراء ذلك، والسياحة الطبية والعلاجية واحدة من ضحايا تلك القرارات.