نحن جيل
استطاع عنوة فهم جيل الرعيل الأول والأجيال التالية، ومنّا من عاش ورأى كيف كان
المجتمع متسالما، متآلفا، متعاونا على الإحترام والتقدير والإيثار، ورغم حدوث بعض
الجرائم عبر الفترات المتقطعة، إلا أن ذلك الرعيل كان يقوده رجالات عظام، شيوخ
قبائل وعشائر وعائلات على قدر كبير من التبجيل والطاعة على الخير من الرعية أينما
كانوا في بادية أو حاضرة، حتى سفك الدماء له قوانين خاصة عند البدو وقوانين رسمية
عند أهل المدن، ومع ذلك لم يذكر التاريخ أن جريمة قتل تتسبب بإحراق حيّ بأكمله،
وتدمير ممتلكات خاصة لأشخاص أبرياء، وترويع النساء والأطفال، تلك حقبة المؤسسين
الأفاضل لهذا المجتمع.
مساء أمس
الأثنين، شاهد العالم كله مراسم تشييع الملكة البريطانية الراحلة اليزابيث
الثانية، بحضور شخصيات عالمية وإنجليزية لم يرّ العالم مثلها إلا في جنازة المغفور
له الملك الحسين قبل ثلاثة وعشرين عاما، عندما غصّت الشوارع بالمواطنين والسماء
تمطر والبرد يلفح الوجوه، والجموع من النساء والرجال والشباب وهم واجمون وباكون
ومتحسرون على فقدان ملك عاشوا تحت حكمه سنوات طويلة، وهو من جمع شيوخ
العشائرالأصليين يوما في قصر بسمان ليساعدوه على إنهاء ما يسمى بالجلوة، واقتصرت
الجلوة بعدها على أمرين، القتل عمدا وهتك العرض، وتحد?د الدية بعشرة آلاف، وبكفالة
زعماء أكابر يدفعون لا يأخذون.
اليوم للأسف
بات التفاخر المخزي والتنابز الاجتماعي والتعالي على الغير مدخلاً للاندفاع
المتوحش في أي مشكلة صغيرة أو جريمة قتل قد يرتكبها صبي لا يقيم وزنا لأهله ولا
لعشيرته أو عائلته، وعندما نقول صبي فعلينا أن نفهم أنه لم يترب في حاضنة عائلته
الاجتماعية عالية الشأن في الأدب والأخلاق العشائرية العريقة، بل هو نتاج خارج عن
العائلة وجد في الشوارع القذرة ساحة لاستعراض بطولات مدفوعة في أغلبها على ما
ابتلينا به من عقليات تنبؤك بأن البعض العقلية المتخلفة تكتب على نوافذ السيارات
الخلفية، العائلة الفلانية، العشيرة العظ?مة، و«عشيرة ناسا للفضاء وإقطع»، ما هذه
العقليات، أليس عقول يدركون بها؟
في تاريخ
آجدادنا لا زال كبار السن يتذكرون كيف أن شرطياً واحداً على حصانه الرسمي كان يجمع
العديد من المطلوبين ويجرهم الى «المخفر» أو المحكمة ولا يعترضه أحد، لأنهم يعلمون
أن المطلوب لم يتم استهدافه بناءً على أسمه واسم عائلته، بل لأن عليه قضية ما أو
طلباً تنفيذياً، أما اليوم فنشاهد في كثير من مناطق المملكة كيف يهُرع جيل كامل من
الشباب لرشق رجال الأمن الذين يقومون بواجبهم للقبض على تاجر مخدرات أو مطلوب خطر
لجرائم متعددة، ما يضطر رجل الأمن لإطلاق الغاز لتفريق الجموع، فما الذي يريده ذلك
الجزء الذي لا يمثل فئات ا?شعب، أيريدونها معركة تطهير جماعي، أم يريدون أن تعيش
عائلاتهم سنين طويلة في ظل الخوف والتوجس وتحاشي السير في أحياء أو مدن خشية
تعرضهم لردات الفعل أو القتل؟
هنا لا أطرح
نفسي مصلحاً أو منظراً لاخترع الفضيلة من جديد، فأنا ونحن جميعا معرضين في هذه
الحياة لأي طارىء غير محمود لا قدر الله، ولكن الخشية اليوم من أن تتوسع دائرة
العنف المجتمعي والتوحش الإنساني، وضياع الضوابط الاجتماعية وما بقي من احترام
وتقدير بين الناس، وهنا أسقط ما كنا نسميه مخافة الله، لأن ما نراه مع كفر في نِعم
الله، ومحاولة إثبات الشخصية المتميزة والمتعالية على الغير قد أوصلتنا بفعل
محدودية العقوبات القانونية والتدخلات الفاشلة التي يقودها مستجدون لا يعرفون في
إصلاح الناس إلا التصوير على الهاتف، الى?مرحلة بات الكثير من الناس قنابل موقوته،
يشحنها خبثاء أو جهلاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبدافعية إجرامية يشعلون نار
الكراهية في نفوس البعض ممن لم يحظوا بالتربية المحترمة.
لا يقول لي
أحد أن الفقر والحاجة هي أهم عوامل ما يجري في البلد، فنحن في بلد ولد فقيرا ومع
ذلك فقد هب الرجال الابطال في الثلاثينات من القرن العشرين وما بعدها للدفاع عن
فلسطين والاستشهاد على ترابها،وعليه يجب تطبيق أشد معايير العقوبة على الصغير قبل
الكبير حينما يكون المجتمع مهددا من عقليات تخرج علينا من شمال الأردن الى جنوبه
لتفسد في الأرض وتقتّل الأبرياء.
عن الرأي