هكذا قالت شابة بريطانية لقناة
تلفزيونية محلية تعبيراً عن حزنها بموت الملكة اليزابيت الثانية، وهي في العقد
الثاني من عمرها على ما يبدو بينما الملكة توفيت بعمر ناهز السادسة والتسعين فأي
رابط هذا الذي جمع بين ملكة حكمت سبعين عاماً عاصرت ما عاصرت من الحروب والويلات
وسنين الرخاء والشدة وشابّةً تُطل على المستقبل في وقت أصبح العالم عبارة عن جهاز
وشبكة إنترنت لا شك أن هذه العلاقة المتكونة تلخص كيف حافظ هرم السلطة على علاقته
مع الناس والأجيال رغم تبدل المعارف والقيم ووسائل العيش وحتى سُلم الاهتمامات فما
بين الملكة العجوز وهذه الشابة مسافة هائلة لا يمكن جسر هوتها بسهولة لكن هذه
العلاقة هي على مايبدو ما حافظ على هذه المملكة موحدة رغم الدعوات المنطلقة بين
الحين والآخر بضرورة الغائها.
قد يلومني البعض بأني أتحدث عن مملكة
حالية وإمبراطورية سابقة كان لها باع طويل في استعمار الشعوب واضطهادها فأورثت
كرهها وبغضها لأمم كثيرة ومنها العرب فقد كان لهم مع بريطانيا العظمى انكسارات
هائلة ابتدأت بتقسيم أرضهم إلى دويلات مروراً بإستعمارها لتلك الدول عدا عن أنها
أنشأت دولة الكيان الصهيوني ودعمتها وحرمت الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه (رغم ان
الملكة لم تزر دولة الاحتلال ابدا حتى مماتها) كما أنها كانت شريكا في غزو العراق
وتدميره كدولة وتشتيت أهله، كل هذا صحيح لكنه لا يجب أن يمنعنا عن النظر إلى تجارب
الشعوب بغض النظر عن موقفنا منها وبريطانيا أياً يكن رأينا فيها هي أمة عظيمة
تبوأت مكانتها العالمية تلك ليس بالتمنيات بل بالتخطيط والعمل الجاد والأفكار
الملهمة.
ما لفت انتباهي في رحلة وداع الملكة
وطقوس الحزن عليها وكذلك مراسم تنصيب الملك تشارلز الثالث هو المزج البارع بين
مشاعر الحزن العميق والفرح الكبير دون أن يفقد أياً منهما مساحته وتأثيره وإن بدا
الأمر مستحيلاً لكنه حصل في بريطانيا ففي الوقت الذي كانت مشاعر الحزن بوفاة
الملكة توشح الساحة بوقار كان الفرح بتنصيب الملك يغمر المكان بزهو عجيب بل وان
المتابع للحدث منذ لحظة الوفاة وتطبيق خطتها التي عُرفت ( بجسر لندن سقط ) والتي
وضعت معالمها في العام 1960 وعدلت عليها الملكة قبل وفاتها ووضعت لمساتها الأخيره
يشعر المتابع بأن كل شيء معد بمنتهى الدقة ليس لغايات الإبهار فقط وهو مايحصل لأي
متابع لكن لغاية مختلفة وهي على ما يبدو خلق حالة موحِدة للبريطانين تشعرهم بأن
الملكية هي ارث يجب المحافظة عليه كما يجب الحفاظ على بريطانيا موحدة، وهي البلد
تجتاحها موجات انفصالية بدءاً من اسكتلندا وربما تليها ويلز الأمر الذي سيضعفها
ويؤدي إلى تقسيمها.
يبدو ان هاجس الانقسام وإنها الملكية
كان الفاعل الرئيس وراء الأصرار على بث كل لحظة من هذه المراسم التي لم تنته حتى
اللحظة، وهذا هو الدرس الذي أرادت الملكة أن ترسله للجميع مفاده انها قادرة على
توحيد الأمة حتى بعد موتها رغم علمها ان شعبية الوريث منحدرة وربما تؤدي إلى تدني
شعبية الملكية ذاتها لكنها ارادت ان تبث الروح فيها رغم كل الصعوبات، طبعا هذا هو
دور الشخصيات التي تشعر انها ملزمة تجاه شعوبها في حياتها ومماتها والملكة
اليزابيت واحدة من أولئك القادة ولا غـرو في ذلك فهي وريثة ألف ومائتي عام من
الملكية وتحمل إرث ستين ملكا قبلها وهي بهذا المعنى تجسد ميراثا لا يمكن ينتهي
بموتها وهذا ما حرصت ان تظهره للبريطانيين وتؤكد عليه بأن لا ينجرفوا بعيدا بإتجاه
اليمين ويقسموا المملكة الى دويلات متناثرة فإرثهم جدير بأن يوحدهم ويبدو انها
ستنجح فحالة الحزن على موتها جمعت البريطانيين من مختلف التوجهات والمشارب رغم
انها لم تحكم بشكل مباشر في أي يوم واحترمت خيارات الشعب في كل وقت لهذا تمتعت
بمكانة الرمز أكثر من مكانة الحاكم ويبدو انها فازت.
وهذا درس يمكن ان تتعلمه الكثير من
القيادات على مستوى العالم وفي بلادنا العربية بشكل خاص رغم حداثة عمر الدولة
والحكم لدينا لكن يمكن أن لا نعيد اختراع العجلة ونبدأ من حيث انتهى الآخرون،
فالدرس جاهز فالقائد الذي يؤمن بشعبه وخياراته وأمته وتراثها ويجسد نفسه خادما
لشعبه يمكن له ان يخلد في وجدان شعبة وربما يصبح ملهماً للآخرين.