الضبابية والتناقض بالتصريحات هما من
اهم الوسائل التي قد يلجأ إليهما أهل السياسة (فن الممكن ضمن الامكانات المتاحة)،
وهما من الوسائل الاستباقية التي تطرح لمواجهة كل الاحتمالات الناتجة عن
الاختلافات بالسيناريوهات المتوقعة او المجهولة، وتعتبر مؤشرا على الرغبة بالتزام
الحيادية وإرضاء جميع الأطراف إن أمكن ذلك، وقد برز ملامح هذا الأسلوب في الآونة
الأخيرة من خلال العديد من التصريحات التي تعبر عن مواقف الدول وسياساتها
الخارجية، وكان لتعدد الاقطاب وتوالي الازمات وخاصة الناتجة عن انتشار الأمراض
والحروب الاثر الكبير لظهور هذا النهج السياسي عالميا.
مهما وصلت أي دولة من شبه اكتفاء ذاتي
في قطاع ما فإن باقي القطاعات لديها تبقى لها حاجات تلزمها على التعاون مع باقي
الدول لتغطية نقصها، فباختلاف التضاريس والمناخ والثروات المعدنية والموارد من
الطاقة والمياه اضافة للإختلاف بالتعداد السكاني والمستوى المعيشي والتعليمي،
سيعمل كل ذلك على الاختلاف في الفوائض وكذلك للنواقص، فلا يكون أمامها من مناص الا
اللجوء إلى تكتل اقتصادي مع مجموعة من الدول الجادة بالسعي وراء التقدم والازدهار
لاقتصادها.
وقد تعزز السعي وراء التكتلات الإقتصادية إضافة
لما سبق ذكره بسبب التغيير للمفهوم العام للصناعة وانتقالها من مدرسة الإنتاج
الصناعي المتكامل من ألألف إلى الياء إلى مدرسة الصناعات المتخصصة بجزء من المنتج
النهائي والذي أصبحت مكوناته تصنع في عدة دول، فأوجب هذا التغيير الدول الصناعية
على التعاون بجميع أشكاله للحفاظ على ديمومة صناعاتها وهذا ماحدث مع دول النمور
الآسيوية وكذلك رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).
إن التكامل الاقتصادي بين الدول والذي
كان بداياته بعد الحرب العالمية الثانية كان بسبب وضوح الرؤيا للسياسة الخارجية
لتلك الدول وأفضى إلى مجموعات مختلفة من التكتلات الاقتصادية في عدة اقاليم حول
العالم وقد كان الأكثر اهمية وتأثيرا وتجاوز مفهوم التكتل الاقتصادي الى مستوى
الاتحاد ألا وهو الإتحاد الاوروبي.
لذلك كان وضوح هذه الرؤيا الطريق الذي
ينتهي عنده اول درجة من درجات سلم الصعود للنجاح والازهار الاقتصادي، وتماما على
النقيض كانت الضبابية والتناقض بالتصريحات او حتى الامتناع عن الإدلاء بأي موقف
واضح تجاه أي من القضايا والأحداث الحالية ان استمر على (المدى الطويل) سببا واضحا
لتراجع الاقتصاد وتعاظم مشكلاته.
فهذه الضبابية وأخواتها ليسوا اكثر من
وسيلة مؤقتة لتساعد الدول على شراء الوقت لإعادة ترتيب الاولويات والانتظار لوضوح
الرؤيا ومن ثم الدخول في خضم التجاذبات والتحالفات والتكتلات مع الدول التي تجد
انها ستحقق لها الفائدة والنجاح لتحقيق اولوياتها الجديدة التي نتجت بسبب تبعات
الازمات الأخيرة من جائحة الكوفيد والحرب في أوكرانيا.
لا أحد يستطيع أن يجزم بأن من أشعل
الحرب في الوقت الذي إختاره سيطفئها كذلك، فدول العالم قلقة والرؤيا أمامها مشوشة
وسلاسل التوريد والإمداد أصبحت تطيح بجدوى الاستثمار بالتصدير والإستيراد بسبب الارتفاع المتتالي لوسائل
الشحن، والبعض منها توقف كليا، فالحرب حتى وإن وقعت بعيدا عن باقي حدود الدول فهذا
لا يعني ان اقتصادها لن يكتوي ولو بالقليل بنارها، لذلك لا بد أن تبقى رفيقة
الحروب (الضبابية) ملاذها المؤقت الآمن، فلا أحد لديه أي تصور عما ستؤول إليه هذه
الأحداث، وقد تعلمنا من كتب التاريخ بأن الحروب، ورغم غرابة هذا التشبيه، كالفراشة
لا أحد يعلم أين سيذهب بها الريح.
مهنا نافع