القسم : بوابة الحقيقة
أجمل لحظات العمر
نشر بتاريخ : 3/23/2022 1:41:12 PM
صباح حراحشة

لا يمكنك إيقاف الزمن مهما فعلت، ولكن بعض اللحظات تُحفَرُ في الذاكرة وكأنها صورٌ هربت من سطوة النسيان. ذاكرتي كأم تزدحم بالصور والأصوات والمشاعر، هناك ركنٌ فيها لكل شيء يتعلق بأبنائي. أول الصور كانت لأصابع يد ابنتي البكر أسيل، لم استوعب في تلك اللحظة كيف يمكن أن أرى بديع خلق الله يتجلى في تلك اليد الصغيرة، توقف الزمن هناك، والتقطت الذاكرة صورة بقيت تجسد لحظة دهشة تستحق الخلود.

 

رزقني الله بابنتي الثانية مستجيبا لدعواتي، فلقد أحببت اسمها قبل أن اراها، كما أن أسيل تريد أختا لتلعب معها، كان شعر تمارا ناعما كالريش، وكان والدي يبلله بالماء حتى يخفف من تطايره فوق رأسها الصغير، وفي هذه اللحظة التقطت الذاكرة صورة لهما وخبأتها في مكان عصي على النسيان.

 

عزيز الذي عشق سيارات الشرطة والطائرات الحربية، اختار أن يحمي الناس منذ البداية، وكان مغرما بالحديث مع رجال الشرطة، أخبرهم يوما كل ما يعرف عن طائرة الأباتشي، لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره بعد، سألني الشرطي باندهاش فيما إذا كان يتخيل أم يتحدث بمعلومات حقيقية؟ أجبته بأنه يخبرك الحقيقة وبأدق التفاصيل، وهنا أيضا التقطت الذاكرة صورة أخرى لن تسمح لشيء بالمساس بها.

 

أما رشا الصغيرة فقد كانت حريصة على أناقتها (وبريستيجها) منذ البداية، فطلبت مني أن أصفق بهدوء وأن لا أنادي على اسمها لحظة وقوفها على المسرح لتأدية دورها في مسرحية الروضة، ولكن كان لها عكس ما أرادت فجمعت صديقاتي المشاغبات وشكلنا صفا كاملا وصفقنا لها بشدة ونادينا على اسمها بصوت عال فما كان منها إلا أن هزت رأسها الصغير وهي تنظر إلي ولسان حالها يقول: ما فيش فايدة! وكانت هذه واحدة من أجمل اللحظات التي خبأتها في مكان آمن من الذاكرة.

 

مسرح العرائس كان من أحب اللحظات إلى قلبي، كنت أُجْلِسُ أولادي كالجمهور بجانب بعضهم البعض، ثم أخبيء جسدي خلف أسرة النوم الخاصة بأطفالي، وأضع يداي في لعب معينة تطل عليهم وتحدثهم؛ كنت أخلق حوارات عديدة بين شخصيات مختلفة، وأصنع قصصا أرويها لأولادي تتحدث عنهم، ذات يوم وفي ذروة القصة وفي لحظة الحبكة، تفاجأت برؤوس أولادي تطل علي وتبحث عني خلف كواليس مسرحنا المتواضع، أخبرتهم بأنهم يجب أن لا يروني وأن يراقبوا العرائس فقط، ولكنهم رفضوا، أضحكتني براءتهم كثيرا، ولا زالت تلك الوجوه الصغيرة تطل علي من نافذة الذاكرة لتعيد رسم ذات الضحكة على شفتيْ في كل مرة.

 

حرصت على عيش كل اللحظات مع أطفالي، حضرت كل أشرطة الفيديو التي كنت أسجلها لهم عددا لا أعرفه من المرات، حفظت تفاصيل شخصيات الأفلام الكرتونية، واستخدمت بعضها لتساعدني على إقناع أولادي بالكثير من الأمور، فمثلا كان (ستروبي) الذي يجسد دور البكتيريا في برنامج كان يا ما كان الحياة، شخصية رئيسية في تعاملي مع أطفالي، واستطعت عن طريقه إقناعهم بضرورة شرب الدواء، وضرورة الذهاب لطبيب الأسنان، والمحافظة على النظافة، وأكل وجبات الطعام وشرب الحليب، ليصبحوا أقوى منه وليتغلبوا عليه.

 

حفظت بروفات المسرحيات التي كنت أحرص على إشراكهم بها، حفظت حركات التايكواندو وتحيته، صرخت (الله يحميك) كلما وقع عزيز على أرض ملعب كرة القدم، واختلطت دقات قلبي مع دقات قلب تمارا الصغير وهي تشدو يا شادي الألحان بصوتها العذب الذي أسر قلوب الحاضرين، وانتشلتني أصابع رشا الصغيرة من حزني على فقدان والدي وهي تعزف لحنا فيروزيا على البيانو علمته لنفسها بهدف إسعادي، أما أسيل فقد جعلتني أما فخورة على الدوام.

 

كانت الإنجازات تسجل على الجدول المعلق على باب الغرفة، ازدحم الباب بالنجوم والأرقام، وكانت صورة القمة تتوسط ذلك الحيز، وكان الحديث عن الوصول للقمة يتكرر باستمرار وبطرق مختلفة. خلف ذلك الباب كنت أستمع لمفاوضاتهم حول البرنامج الذي سيحضروه أو شريط الفيديو الذي سيختارونه، كانوا يعلمون بأن هذه المفاوضات يجب أن تؤدي إلى نتيجة، لأن البديل سيكون إغلاق التلفزيون في حال عدم التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف.

 

يخبرني الجميع بأن ملامحي تصبح أجمل عندما أتحدث عن أبنائي، كيف لا وهم سبب كل سعادة شعرت بها في هذه الحياة، لقد أكرمني الله كثيرا عندما جعلني أما لهؤلاء الأبناء البارين الذين لم يخذلوني يوما، بل كانوا مصدر فخري وفرحي، وكانوا بلسمي الشافي في لحظات ضعفي، فاستحقت لحظاتي معهم أن تحتل معظم ذاكرتي التي تجيد كثيرا الانتقاء، وتجيد تجميد الزمن إن شاءت، لتخطف منه لقطات رائعة، كان الأروع من بينها لحظات عشتها مع أبنائي، الذين منحوني متعة الأمومة وعذوبتها في تجربة لو خيرني القدر بينها وبين أي شيء آخر، لعدت واخترتها بكامل تفاصيلها مع هؤلاء الأربعة الذين كانوا نبض قلبي وروح ذاكرتي. في عيد الأم سأقول لهم شكرا فقد جعلوا لي عيدا وأهدوني أجمل قيمة من قيم الحياة، لقد جعلوا مني أما.

 

جميع الحقوق محفوظة © الحقيقة الدولية للدراسات والبحوث 2005-2023