بعد أيام قلائل يظلل المسلمين في شتى أقطارهم
وتجمعاتهم -الذين يشكلون ما يعادل ربع سكان العالم- شهر رمضان الكريم، بما له من
خصوصية في عباداتهم وعاداتهم، ويأتي الشهر هذا العام بعد حولين في ظل الجائحة، مر
الشهر خلالهما دون أن يشعر المسلمون بمظاهره وتقاليده، حيث فرضت الجائحة غياب كثير
من عادات الاحتفاء بأيامه ولياليه، وإبراز تقاليده وشعائره، وغابت عنه أبرز
العبادات الا وهي صلاة التراويح -لأول مرة في تاريخهم-عندما أُقفلت المساجد في وجه
المصلين، ويُرجى أن يكون هذا الشهر مغايرا، تبعا للتحلل من احترازات الوباء
تدريجيا، فكل عام والأمة إلى خير، وإلى الله أقرب.
يُستقبل الشهر عادةً بتقاليد موروثة، أهمها مراقبة هلال الشهر في كل بلد أو
تجمع إسلامي، ويكون ذلك في ليلة الثلاثين من شعبان، ففي هذه الليلة تنعقد لجنة
خاصة لاستقبال الشهادات برؤية الشهر حتى ساعة متأخرة من الليل، فإن حضر الشهود،
تتحقق اللجنة من الشهادة من حيث حجم الهلال وشكله واتجاهه ومكان المشاهدة ووقتها،
فإن توافق ذلك مع الشكل والميقات المعلوم له، تتشاور اللجنة لتعلن بعدها دخول
الشهر، وصيام اليوم التالي، اعتمادا على أسس علمية رصينة.
ما أن يُعلن عن رؤية الهلال حتى يبدأ المسلمون بتبادل عبارات التهنئة
بينهم، وذلك على المستويين الشعبي والرسمي، منها كل عام وأنتم بخير، مبارك عليكم
الشهر، رمضان كريم، بل يتم تبادلها مع مواطنين غير مسلمين، فتغمر أجواء الشهر
بأيامه ولياليه الجميع بالفرح، حتى لا تكاد تفرّق بين المسلمين ومواطنيهم من غيرهم
من حيث احترام خصوصية هذا الشهر.
لكنّ التحضيرات الخاصة بحلول الشهر تسبقه بأيام، وربما بأسابيع، فتستعد
الأسواق له بشكل منقطع النظير، وتعرض المتاجر بضائعها وتروج لها بأشكال وصور جاذبة
خاصة متطلبات الشهر، مثل قمر الدين والقطايف والمكسرات، وتغص الأسواق بالناس لشراء
مؤنة الشهر نهارا وليلا، حيث يزداد النشاط والحركة بصورة لا تجدها في باقي أيام
السنة، كما تُنار المساجد، وتُعلق مظاهر الزينة على الأبواب والنوافذ مثل المصابيح
الكهربية والفوانيس.
من عادات بعض الشعوب العربية أن تقوم بوداع روتين الحياة قبل أيام من حلول الشهر،
بأن تكون لهم نزهة يقومون خلالها بتناول أشهى المأكولات من مشاوي وغيرها، بل قد
يكون فيها شيءٌ من اللهو البريء يتخلله الغناء الجماعي، وذلك استعدادا لما يقتضيه
الشهر من تغيير النهج؛ من الصبر على الجوع، والانغماس في العبادات؛ بقراءة القرأن،
وأداء الصلوات خاصة التراويح والقيام.
لا شك أن قيم وعادات الشهر قد أصابها الكثير من الضر بين الأمس واليوم؛ بعضها
اندثرت وأخرى صمدت، يعود ذلك في كثيره لما طال الحياة من تغيرٍ في الأفكار
والأساليب والأدوات والعادات، أنتجه العقل البشري بتسارع مذهل، لكنّ عواطفنا قد لا
تجاري هذا التغيير ولا ترغبه، بل نبقى نحنّ إلى تلك العادات التي تستقر رواسبها في
النفس، وارتبطت بطفولة عذبة تسعد بكل شيء من مأكولات، ومدفع رمضان (من عهد
المماليك)، والمسحراتي (من صدر الاسلام)، وفوازير الشهر، ومسلسل يلم العائلة،
ونكهة السهرات الخاصة التي تجمع الأهل والأقارب والأصدقاء.
تجيش عواطفنا نحو تلك الطفولة البريئة السحرية المزحومة بالذكريات، على
الرغم من محدودية الخيارات والامكانيات آنذاك، سواء في اللهو أو التسرية، فكانت
العبادات والعادات تحث على التقارب في المساجد والبيوت، ولا زلنا نذكر بخير وفرح
ذلك الرجل الذي يقوم من فراشه، ويترك بيته وأولاده، ويدور على البيوت مع طبله
وعصاه في أحلك الليالي، وفي أشد الظروف قسوة، وهو يحرص على إيقاظ أهل حيه أو حارته
للسحور، كل باسمه، وبكلمات منشودة، ومِدحٍ رتيبة، ، كل ذلك مقابل الأجر الأخروي،
أمّا الدنيوي فلا يسمن ولا يغني أولاده من جوع.
يوسم الشهر بالكرم، لما يتخلله من تسامح بين الناس، وصلة للرحم، وتفقد
الناس لبعضهم بعضا، والتئام مآدب وخيم رمضان التي يأتيها الكثير من ذوي الحاجة،
كما تُدفع فيه صدقة الفطر، وفيه أيضا تتزايد العبادات وتتعاظم الأجور، وفيه ليلة
خير من ألف شهر، وتغلق فيه أبواب المنكر، بل أن بعض الناس يجدها فرصة سانحة لتغيير
النهج في الحياة من مثل المحافظة على الصلاة، وشتى العبادات، وترك سيء العادات.
مبارك عليكم الشهر
الدوحة - قطر