حسين الرواشدة
فيما تراجعت وزارة الأوقاف المصرية عن قرار إلزام الخطباء بالخطبة المكتوبة (آب من العام الماضي) بعد ان رفضها الخطباء، وتحفظ عليها الأزهر، بدأت وزارة “أوقافنا” بتكرار التجربة ذاتها مع إضافة بسيطة وهي صرف مكافأة لأفضل خطيب ،مقدارها 50 ديناراً.
سأتجاوز – بالطبع -ما أثاره القرار من تعليقات ساخرة على وسائل الاعلام المختلفة، وسأحاول ان افهمه في سياقين اثنين: أحدهما يتعلق بتحسين جودة خطبة الجمعة من خلال كتابة نص موحد يلتزم به جميع الخطباء في مساجد المملكة، ثم معاقبة غير الملتزمين منهم، اما السياق الاخر فهو تفعيل استراتيجية مواجهة الخطاب المتطرف بخطاب متزن ومعتدل.
إذا دققنا في السياقين سنجد ان النتيجة ستكون بعكس الاتجاه تماماً، لان تحسين او تطوير خطبة الجمعة لا يمكن عزله أولا عن تنمية دور المسجد وعلاقته مع مجتمعه، وثانياً عن تطوير مهارات الائمة والخطباء وتحسين أوضاعهم المعيشية والظروف التي يعملون بها، وثالثاً عن احترام قيمة هؤلاء الخطباء الذين يفترض ان يكونوا “ائمة” في مجتمعهم لا مجرد “قرّاء” لخطب مكتوبة ، كما لا يمكن فهمه ايضاً في اطار تفعيل علاقة جمهور المسجد من المصلين الذين ينتظرون ان تناقش الخطبة قضاياهم، تبعاً للاماكن الذين يعيشون فيها، لا ان يدخلوا للصلاة وهم يعرفون مسبقاً ما سيقوله الخطيب، وربما يكون لا علاقة له بما ينتظرونه منه.
إذا اضفنا لذلك المكانة الرفيعة التي تحظى بها “الخطبة” في ذاكرتنا الدينية وتجربتنا التاريخية حيث لم يشهد تاريخنا الإسلامي منذ أربعة عشر قرنا مثل هذه التجربة التي تفرض فيها خطبة واحدة ومكتوبة على الخطباء. إلاّ مرة واحدة قبل نحو ألف عام حين هاجم الروم الحمدانيين في الشام وتطوع احد الخطباء (ابن نباته) بكتابة مجموعة من الخطب التي تحث على مقاومة الروم، آنذاك كان التزام الخطباء بما كتبه ابن بناته بناء على رغبتهم ولم يكن قراراً من السلطة.
إذا اضفنا ذلك، فإن “بدعة” الخطبة المكتوبة ستهز من قيمة الخطبة ومن منزلة الخطيب امام جمهوره، كما انها ستحول المصلين الذين يتدينون بهذه المناسبة العظيمة الى “طلاب” صف يستمعون لبيان ديني مكتوب لا الى خطبة يجتهد فيها الخطيب –حسب المكان الذي يعيش فيه-للتواصل من خلالها معهم.
إذا دققنا أكثر، سنجد ان جمهور “الخطبة” خاصة من الشباب، يبحثون عن خطاب يجذبهم ويفاجئهم بما يتضمنه من “ابداع” ومن مناقشة قضايا تعنيهم، لكن حين يذهبون للمسجد وهم على اطلاع بما سيقال، ناهيك عن انه “كتب سلفاً”، فإنهم سيبحثون عن خطاب آخر في امكنة أخرى ،وأخشى ما اخشاه ان تكون الخطبة المكتوبة أفضل هدية نقدمها لدعاة التطرف، لأنهم أسعد ما يكونون باستقبال هؤلاء الشباب الذين عزفوا عن سماع خطبائنا ووجدوا ضالتهم في خطاب آخر لم يفرضه عليهم أحد.
اذا كانت وزارة الأوقاف قد اكتشفت ان نحو ثلاثة آلاف خطيب لا يجيدون الخطابة، وأنهم يستطيعون “القراءة” فقط، او انها اكتشفت ان جمهور يوم الجمعة الذين يزيدون عن 3 ملايين لا يستحق خطباء مجتهدين وخطباً مبدعة لا مجرد “بيانات” مكتوبة، فما الذي أنجزته على صعيد سدّ عجز المساجد من الخطباء (65% منها خالية من الخطباء والائمة) وما الذي فعلته لتطوير الخطاب الديني واستعادة الدور التنويري للمنابر، ثم ما الذي يمكن ان تفعله قرارات “تأميم” المساجد سوى القطيعة بينها وبين جمهورها، علماً بأن التطرف الذي اتخذ القرار من اجل مواجهته سيكون الكاسب الأكبر، وعلماً ان المتطرفين لا يرتادون المساجد ايضاً.
أعرف ان البعض سيرد هنا قائلاً ان بعض التيارات اختطفت الخطبة او ان بعض الخطباء غير مؤهلين للخطابة، او ان الموضوعات التي تطرح من فوق المنابر غير مناسبة، وربما لا تتطابق مع قيم الدين الصحيح، ربما يكون ذلك الواقع حقيقياً، لكن السؤال هل نعالج الخطأ بخطأ، وهل عدمنا الوسائل الأخرى الا الخطبة الإلزامية، لمواجهة هذا الواقع، ثم ما ذنب الخطباء الجيدين؟ لماذا نعاقبهم بدل ان نشجعهم على الاجتهاد؟ وما ذنب جمهور المصلين الذين “يتعبدون” بالصمت حين نلزمهم بالاستماع الى “بيان” قرأوه مسبقا.
أرجو ان نكتشف قبل فوات الأوان ان ما فعلناه، سواء على صعيد الخطبة المكتوبة، او المسجد الجامع، او الخطاب الديني الذي تتبناه بعض مؤسساتنا الدينية، سيذهب بنا الى العناوين الخطأ، وسيصب بعكس اتجاه ادارتنا السياسية لمواجهة التطرف والإرهاب…هذا الذي أصبح أكبر خطر يهدد سلامة بلدنا ومجتمعنا…وديننا أيضا.
عن الدستور