بقلم:
د. حفظي اشتية
.. ودخلت شهرزاد إلى شهريار فوجدته بادي الهم، ساهم النظرة، مشغول
البال.....فسألت: ما بك يا مولاي؟ فأجاب:
الكلية
الجامعية هي نواة الجامعة، وسبب تقدمها أو تأخرها، صلاحها أو فسادها...... وفي
مؤسستنا كلية عريقة، فيها تخصصات الآداب، وتضم عدّة الآف من الطلاب، وقد تناهى إلى
مسمعي سوء حال عميدها، وعبثه بها، وعيثه فساداً فيها، قد ولي أمرها خطأً ذات غفلة
وانحطاط إداري دون أن تكون لديه أدنى أساسيات الإدارة السليمة الأخلاقية القويمة،
وجعل كلّ همّه منصباً على نسج العلاقات المصلحية غير السويّة التي تساعده في
الحفاظ على منصبه، وتزيين صورته المشوهة، وتضخيم هالته الشائهة وهيبته الزائفة،
وتهوين أخطائه الجسيمة، والتجاوز عن كوارثه العظيمة، والتغافل عن ماضيه، والتعامي
عن جناياته وبلاويه، يقرّب منه كلّ من هو على شاكلته، وينصّب مجموعة من النُصب
لتمرير قراراته ومآربه، ويناصب كلّ قوي أمين جادّ ملتزم العداء المستحكم، ويسعى
إلى إبعاده بكلّ وسيلة مشينة، ويلفق له كلّ تهمة مهينة، ليخلو ميدانه من كلّ نظيف،
ولا يرى حوله إلّا كلّ خوّار ضعيف.....
سألت
شهرزاد: فأين المسؤولون عنه؟ ولماذا لا يراقبونه ويحاسبونه؟؟
تنهّد
شهريار وقال: المشكلة أن بعض المسؤولين عنه كانوا من جبِلّته وطينته، بيئتهم مثل
بيئته، جمعتهم نفوسهم الشريرة، وربطت بينهم مصالحهم الخاصة، وهمم نفوسهم الحقيرة،
ونأت عن تفكيرهم مصلحة المؤسسة، وحقوق المسالمين فيها، وفرضوا على معظم الرعية منهج
النفاق والتملق والتقرّب المصطنع الهادف، والاحترام المتكلَّف الزائف، وخنقوا
الانتماء الحقيقيّ، وقتلوا المنهج السويّ، فحوّلوا الساحة إلى حلقة للرقص الهستيري
تكيل المدح الرخيص للرئيس الأعظم، وزعزعوا ما بناه المخلصون من منظومة الأخلاق
والقيم.
أمّا
مَن دونهم من المسؤولين فهم محكومون بالرغبة أو الرهبة، فمعظم رؤساء الأقسام يتم
اختيارهم من المِطواعين طريّي العود، يبصمون دون تردد، وتقتصر مهمتهم على تبليغ
أوامر العميد، وكأنهم سُعاة بريد، همهم الحصول على ترقية، أو فتات مغنم، وبعضهم
يكتفي من المجد بمجرد الانضمام إلى هذه الجوقة التي يراها في نظره القاصر ذات سطوة
ونفوذ وصولجان، أنّى لإدراكه الهابط أن يعي أنّ كلّ ذلك ما هو إلّا زوبعة في
فنجان، وألاعيب طفولية من "بهلوان"؟؟؟؟ !
-لابدّ
من إيجاد عميد لائق أكاديمياً وشخصياً وإدارياً وأخلاقياً بل ونفسياً، ليقود هذه
الكليّة فتعود بيئة علمية نقية، وتكون المهاد الملائم لجيل ماجد صاعد واعد.
-عميد
تُنشر شهاداته عند تعيينه منذ بداياته المدرسية إلى آخر دراساته العليا على الملأ،
لتثبت تفوقه الأكيد، ومساره الأكاديميّ الرشيد، وجدارته المتراكمة، وأحكام تفوقه
المتعاقبة.
-عميد
حصل على ترقياته بشرف وأمانه، وكتب أبحاثه بنفسه، وهي في صلب تخصصه، ونُشرت
بموضوعية دون تدخّله، لم يتطفل على باحث آخر، ولم يتعربش بمدرس في كليته ليس من
تخصصه ليضيف اسمه على أبحاثه فيصبح الغثاء غثاءين، ويصير الصفر صفرين.
-عميد
حسن السيرة سويّ السلوك، لا يكذب ولا يتملّق ولا يتمسكن للمسؤولين عنه، ولا يمدح
أحداً إلّا بما فيه، ولا يتهم أحداً بما ليس فيه، ولا يطالب أحداً إلّا بما كان هو
شديد الالتزام به والحرص عليه، لم يرتكب يوماً جناية، ولا نزل سجناً، لم يزيّف أو
يزوّر، يوظف دوماً كلّ جهده لعمله الأكاديميّ الإداريّ، ولا يهيم في كلّ واد يتلقط
الرزق الحرام والمال الأثيم.
-عميد
حصل على منصبة بمنافسة شريفة، سعى إليه المنصب ولم يسعَ هو إليه، وهو زاهد فيه،
ولا يبقيه إلّا حرصه على رفعة كليته والارتقاء بها، وخدمة العاملين فيها.
-عميد
مناسب في تخصصه ومستواه لكلية آداب، إذا تكلّم سالت فصاحة الأعراب على لسانه الذلق
العفيف، وإذا كتب أشرق البيان والخط العربي بقلمه السيّال الظريف، يفهم قواعد
النحو العربي ويلتزمها، ويتذوّق حلاوة الأدب ويستعذبها، وترى مجلسه دوحة أدبية
تستعيد أمجاد طه حسين وناصر الدين الأسد ونهاد الموسى والعقّاد..... إلخ.
-عميد
كبائع المسك إمّا أن يحذِيَك، وإمّا أن تشتم منه أطيب رائحة، لا يشرب في مكتبه
وخلال عمله إلّا كلّ مشروب حلال مستطاب، ولا يدخّن هو وحاشيته فيحوّل المكان إلى
بيئة خانقة ملوثة بكلّ ما يُستقبح ويُستكره ويُستعاب.....
نظرت
شهرزاد في عيني شهريار المسهدتين الساهمتين في آلام موجعة وآمال عِذاب، وتحاشت أنْ
تصدمه مزيداً بمرارة الواقع، فدعته إلى التمتع بالخيوط المتسللة من الفجر الوادع،
فتراخت عنه الهموم، واستسلم سريعاً إلى أحلام النوم.....