بقلم: د. حفظي اشتية
عانينا كثيرا في السنوات الأخيرة من تردد الكثير من المسؤولين في
اتخاذ قرارات مهمة عتابا أو حسابا أو تصويبا أو عقابا يصل إلى حد الإعفاء من
المنصب أو الخدمة، وغدا مثل هذا القرار نادر الحدوث، لأن صاحب القرار تغلبه
الرغبة، أو تأخذه الرهبة، ويتداعى إلى السكينة، ويغلق بابه في وجه الريح ليستريح،
وتمضي المؤسسة قدما في عثراتها، ويزداد المسؤول المخطئ ثقة زائدة في نفسه، ويمعن
في التنمرد، وتتعالى نغمة خطابه ليصور نفسه عصيا على المساءلة والتغيير، وتتعزز
مكانة الطغمة المحيطة به، ربيبة نعمته المتخرجة من مدرسته، المتشربة بخلقه ومسلكه
ومنهجه.
وتدور رحى الظلم لتطحن نفوس الموظفين الشرفاء النظيفين، ويتفرقون أيدي
سبأ : فئة تحاول جاهدة الحصول على أدنى أبجديات حقوقها بالمهادنة والملاينة، وفئة
تنزوي بعيدا تلعق جراحها وتعلن يأسها واستسلامها، وفئة يجرفها التيار فتدور في فلك
التوسط والاستنصار، وفئة لا يعجبها هذا الحال المائل فتخوض معركة شرسة غير متكافئة
مع الظلم الغاشم، وتتلقى الأهوال وتصمد لأنها تريد أن تبقى رأس حربة في وجه الخلل
مهما كان المآل.
ــ يعاين صاحب القرار اضطراب المؤسسة، وتزايد المتذمرين، وارتفاع
وتيرة الشكاوى، واللجوء إلى المحاكم ويدرك وهو الذكي الجريء أن هذه الكثرة الكاثرة
من الشاكين لا تجمع على باطل، وأن البوصلة تائهة مقلقلة.... فيبدأ بجمع المعلومات
الحقيقة اليقينية التي تقوده إلى نتيجة حتمية بأن رئيس المؤسسة غارق في غيّه، وأن
المؤسسة ماضية لا محالة نحو ضياع محتم، لا يغطي عليه ويؤجل انكشافه سوى هجمات
إعلامية عرمرمية من المسؤول تحوك الغشاوات على أعين المبصرين الباحثين عن الحقيقة،
فيأتي القرار الصائب الصاعق المنتظر بإعفاء الرئيس، فتروح السكرة وتأتي الفكرة.
ــ يصحو صاحبنا على جمر الواقع، ويجد نفسه قد أطيح به من علٍ كما
رددنا كثيرا ونبهنا، فتنكشف السيئات والسوءات، ويعلو الحق ويزهق الباطل.
ولأن كثرة الصياح من الفشل، يرفع المخلوع عقيرته، ويرغي ويزبد،
ويستعرض إنجازات تمت في عهد سابقيه وينسبها لنفسه، ويضخم مخرجات ضئيلة حدث في عهده
بجهود جنود مجهولين، ويتناسك برداء الهدى والتقى والعفاف والغنى، ويزوّق نفسه
بالتزييف طمعا في الظفر بمنصب جديد لتكتمل الكارثة، ويفجر المفاجأة العظيمة
المذهلة التي غابت عن العقلاء بأن ذنبه الذي جنى عليه هو شدة تمسكه بالقوانين!!!!
وأن تمثّله للسيرة العمرية قد أثار حاسديه ومنافسيه ومعاكسيه!!!!!!! وأن المصيبة
هجمت عليه لأنه وردٌ استفزتهم حمرة خديه!!!!!!! ويلقنه أحدهم قول قائلهم :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
ويقف على أطلال مجده المكذوب وقفة أبي عبدالله الصغير باكيا تقرّعه
أمه :
ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال
وتتساقط عليه حكمة العرب وهو يستنيم إلى لذة الانفصام، يخيل إليه
خداعه بأن المؤسسة بعده في طريقها إلى الضياع والتشرد، فيردد :
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر؟؟!!
ــ لكنه يسمع هاتفا يصم سمعه يناديه : أيها الفتى الضائع، عد إلى رشدك
وحجمك والزم حدك، واعترف بأنك كنت وبالا وبالا، لطالما آذيت وظلمت وسلبت حقوقا من
أصحابها، ووهبتها لغير مستحقيها، وتعاليت وتجبرت وتكبرت وتماديت وزيفت، فأمتَّ بعض
الشرفاء حسرة وقهرا، وأسهدت عيون آخرين تدعو عليك بسهام الليل، وألجأت المسالمين
إلى المحاكم، وخنقت الانتماء عند الملتزمين، وملأت صدور معظم رعيتك همّا وغمّا
وأسى ليس عليك بل على مؤسسات وطن يعبث ويعيث فيها أمثالك فسادا وإفسادا.
ــ يا صاحب القرار،
طوبى لقلبك السليم الذي أصاب سهمه قلب الباطل فصرعه وأرداه، وسلمت يمينك
غير المرتجفة التي مهرت القرار بتوقيعك المهيب، وسلم قلمك الذي رسم بجمال وبهاء
أنوار الفجر الصادق.
لكن،
بقي أن تلاحق هذا المدّعي لتوقع عليه الجزاء بكل آهة مظلوم ودمعة
مقهور ونفثة مصدور، كما بقي أن تستلّ فسائل الفتنة والفساد التي زرعها بيديه،
واجعلها كالعصف المأكول، قبل أن تستوي على سوقها وتفسد عليك وعلينا ما أصلحه قرارك
الحكيم المدوي العظيم. وتذكر :
لا تقطعَنْ ذنب الأفعى وترسلها إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا