بقلم: د. خالد الوزني
تتحدَّث التقارير الدولية والدراسات
العلمية المتخصِّصة بتغطية أثر وباء كورونا- كوفيد 19- في الاقتصادات عن تحولات
عالمية كشفت معظمها عن اختلالات هيكلية واضحة في بُنبة الاقتصاد العالمي بشكل عام،
واقتصادات الدولة النامية وتلك المُصنفة بالدخل المتدني، بشكل خاص.
وتشير التقديرات والدراسات إلى أنَّ
العالم فقد من إنتاجه السنوي ما يعادل 6 تريليونات دولار في العام 2020، وبنسبة
تراجع في النمو العالمي وصلت إلى نحو 6.7% عن العام 2019، وذلك بفعل فترات الإغلاق
الكلي والجزئي، وتعطُّل العديد من القطاعات، حتى بعد العودة الكلية أو الجزئية،
وتعطُّل الطاقات البشرية والمادية. ويكفي أن نعرف أنَّ تدفُّقات الاستثمار الخارجي
تراجعت بنحو 600 مليار دولار، وأنَّ حجم البطالة التراكمية في العام 2022 ستصل إلى
نحو 205 ملايين عاطل عن العمل، مقابل 187 مليون عاطل عام 2019، وأنَّ فجوة التوظيف
قد تتجاوز 75 مليون عامل؛ أي إنَّ هناك بطالة بنيوية هيكلية قائمة من اليوم تتجاوز
75 مليون شخص، هم في سوق لا يقبل مهاراتهم أو شهاداتهم أو حتى مؤهلاتهم. وما يزيد
الطين بِلَّة هو أنَّ الإحصاءات العالمية تشير اليوم إلى وجود ما يزيد على 108
ملايين عامل يقعون ضمن خط الفقر التام أو المدقع، ذلك أنَّ ما يحصلون عليه من أجر
لا يكفي قوت يومهم. بيد أنه اليوم وبالقدر الذي كشف فيه وباء كورونا عن عورات
النظام الاقتصادي العالمي، وبالقدر الذي طفقت كل دولة تخصف على نفسها من سياسات
محلية أو قرارات ارتجالية، فقد ظهر في الجانب الآخر مَن هم قادرون على الاستشراف
واقتناص الفرص، وعلى النفاذ والاكتساح، وعلى الخروج من أتون أزمة عالمية لم نشهد
مثلها حديثاً، إلى فضاء كاسح من التحول نحو عالم جديد، عالمٍ يفوق في سرعة
استجابته ما تعودنا عليه في زمن الثورات الصناعية المتعددة السابقة، بما فيها
إرهاصات الثورة الرقمية، ضمن الثورة الصناعية الرابعة.
اقتصاد الاكتساح والنفاذ الجديد، أو ما
يكاد يعرف اليوم باللغة الإنجليزية بمصطلح Disruptive
Economies، هو منهجية، ومقاربات تتجاوز التفكير
التقليدي في كل قطاع اقتصادي عرفناه. فهي في قطاع الخدمات تبحث عن المقاربات
الرأسيةVertical Approaches
القائمة على ثلاثة أعمدة، هي: الجودة، والرقمنة، والوصول اللوجستي فائق السرعة.
أمّا في قطاع الصناعة، فإنَّ القطاعات المُكتسحة اليوم تقوم أساساً على المنهجية
والتوجُّه الأفقي، Horizontal Approach،
القائم أساساً على تكاملية أفقية مع تكنولوجيا التنصنيع، ورقمنة تجهيز المنتجات،
وسرعة الارتباط بسلاسل التزويد، والقدرة على الوصول إلى الأسواق عبر المنصات
العالمية الرقمية، والنفاذ إلى فضاء التكنولوجيا الحديثة، التي ترفع الجودة، وتزيد
الإنتاجية، وتقلِّل من الحاجة إلى التدخل البشري المباشر في العملية الإنتاجية،
وتساعد على اختراق الأسواق الجديدة عبرالفضاء الافتراضي. على صعيد آخر، وفي قطاع
الزراعة، فقد تنوع المنهج في عملية الاكتساح والنفاذ بين التوجه الرأسي والأفقي
وبشكل مختلط يضمن سرعة الانتاج، وجودة المخرجات، وغزارة الإنتاجية للمساحة
الواحدة، والتنكنولوجية البيولوجية والرقمية والمُهجنة، التي تنتهي بجعل الزراعة
في التربة، أو الزراعة السمكية ممكنة حتى في الدول ذات المساحات الصغيرة، أو
التربة غير القابلة للزراعة التقليدية، وعبر مقاربات ما يُسمّى "تكنولوجيا
الزراعة المُكتسحة" Disruptive Agro-technology،
وما تضمُّه من تقنيات الزراعة السمكية المائية،Aquaponics
system ، وتقنيات زراعة التربة المُهجنة ذات
الإنتاجية فائقة الكم والكيفhydroponic
.
ختاماً، وفي ظلِّ الحاجة إلى النفاذ
إلى عالم جديد، تحكمه منهجية الاكتساح والنفاذ، Disruptive
Ecosystems، فإن المخطط الاقتصادي الرشيد سيبحث في
تطوير قطاعات الاقتصاد للتواءم مع طبيعة القطاعات النافذة والمُكتسحة، خدمياً،
وصناعياً، وزراعياً. أمّا الاقتصادات التي ما زالت تنظر إلى الخلف، دون أن تأخذ
العبرة منه، وتعتمد الهروب إلى الأمام، للخلاص من إخفاقات الماضي، ويقتصر تطلعاتها
للمستقبل على التفكير فقط بإجراءات و"قوانين عصرية"، فستجد نفسها في قعر
الاقتصاد العالمي الذي ستكتسح قطاعاته النافِذة قطاعات الدول المُتخلفة عن الركب،
والتي ما زالت تشكك في مفهوم الاستشراف، وتبحث عن معاني الرشاقة، وتكتفي بالتخطيط
الورقي، والإعلان عن أولوياتٍ حفظها الورق وملَّ من كتابتها القلم.