النجاح في الحياة؛ يتطلب الكثير من الجهود، والتحصيل
العلمي والمعرفي، وتراكم الخبرات، والتفاني، والسعي الجاد لتحقيق الأهداف المنشودة،
إلى جانب الحرص على إجادة إدارة الوقت والتحلي بالأخلاق المهنية العالية والسلوك الجيد
، وهو ما حرص عليه الكثير من رجال الأعمال العصاميين الناجحين في العالم وعلى مر العصور،
سواء ولدوا لأسر معدمة، أم لأسر عادية ميسورة أو "مرتاحة" الحال. وها
أنا ذا اليوم، وبألم كاسح، أتحدث عن صديق العمر على مدى (65) عاما (الحاج حسام
عبدالرحمن الحجاوي) الذي فارقني مؤخراً دون وداع بسبب حواجز الاحتلال الإسرائيلي
التي حالت دوننا. وهو العصامي الذي جاء من عائلة "مرتاحة" بفضل جهود
دؤوبة بذلها والده وأعمامه.
لعل أول مآثر هذا العصامي النبيل المولود في نابلس عام 1945، والذي عرفته
في الزمن الجميل أيام الانتصار على "العدوان الثلاثي على مصر (1956)"، كونه
نجح، أول ما نجح (بعد رحيل والده وهو ابن العشرين عاماً) في الحفاظ على قوة خيوط
نسيج الأسرة الأولى (الأشقاء والشقيقات) موسّعاً الاطار ليشمل العائلة الثانية (الزوجة
والأبناء والابنة سناء) مضحياً – بالتأكيد – بأحلام شخصية جالت في باله في مقتبل
العمر، ومنها وقفه لمسيرته الدراسية حيث كان قد باشر العمل مع والده بدء من العام
1960 أي وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وثاني مآثره كونه من العصاميين الذين حققوا النجاح في عالم المال والأعمال،
حيث تمكن خلال وقت قصير من إكمال بناء نفسه بنفسه. وسرعان ما تفوق (حسام) اليتيم على
(حسام) المقيم تحت ظل والده، بتكوين شخصية إدارية مهنية مكّنته من المحافظة، والبناء
على، وتنمية وتطوير "شركة عبدالرحمن حجاوي وأولاده ـ مطبعة النصر التجارية ومكتبتها"
التي كان أسسها المرحوم والده عام 1935، وهي الشركة الأولى والرائدة في مجال عملها
بالطباعة والقرطاسية في فلسطين والمنطقة. وكان المرحوم حسام "أبو العبد"
قد تسلم مباشرة (1965) مسؤولية الشركة بعد رحيل والده (الذي كان صديقا لوالدي)، عاقدا
العزم على المحافظة على إرث عائلته، ومواصلة المشوار في هذه المهنة، بعد أن حرص على
تعلم كل أسرارها وبكل شغف منذ بواكير طفولته وبإشراف واع من والده.
وثالث مآثر العصامي (الحاج حسام) مشاركته في عديد ورشات العمل الخاصة بإعداد
القوانين الاقتصادية الفلسطينية، والتي منها قانون العمل الفلسطيني، ومسودة قانون الصناعة،
ومشروع قانون الغرف التجارية الصناعية الزراعية الفلسطينية، ومسودة قانون المواصفات
والمقاييس الفلسطينية التي كان أحد روادها. ولقد شغل (أبا العبد) عضوية الفريق الوطني،
ومثل اتحاد الغرف التجارية الفلسطينية في وضع إستراتجية وزارة العمل الفلسطينية، وأصبح
عضوا في اللجنة الاقتصادية للخطة الإستراتجية لمحافظة نابلس، وعديد المناصب في مؤسسات
القطاع الخاص الفلسطيني، والتي نذكر منها: رئاسته للمؤسسة المصرفية الفلسطينية، وكونه
احد مؤسسي ورئيس اتحاد الصناعات الورقية، وعضو مؤسس لمركز التجارة الفلسطيني (بال تريد)،
وعضو مجلس إدارة صندوق التشغيل والحماية الاجتماعية الفلسطيني، ومن مؤسسي وعضو مجلس
إدارة الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية. وبسبب إنجازات المرحوم (حسام)، تم تكريمه
من قبل منظمة العمل العربية كرائد من رواد العمل العربي عام 2010، ليتم انتخابه عام
2011 عضوا في مجلس إدارة الغرفة، ومن ثم نائبا لرئيسها. كذلك، بعد انتخابه عام (1992)
عضوا في مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة نابلس، أصبح أمينا للسر فيها، ثم اعتلى سدة
رئاستها في العام (2013).
أما رابع مآثر الحبيب العصامي "أبو العبد" ، انخراطه في العمل داخل
عديد المؤسسات واللجان والجمعيات الخيرية؛ حيث شغل منصب أمين سر جمعية الهلال الأحمر
الفلسطيني، وأمين سر جمعية التضامن الخيرية لأكثر من (25) عاما، وكان احد مؤسسي جمعية
أصدقاء الكفيف الفلسطيني، وجمعية أصدقاء المريض. ويكفي (الحاج حسام) فخرا تبنيه لمشروع
القرطاسية لأبناء الشــــهداء والأسرى والمعوزين لأكثر من 17 عاماً، ووضعه حجر الأساس
لمبنى نابلس الخيري في معهد الامل للأيتام
بقطاع غزة في آذار/مارس (2016)، بعد ترأسه لوفد محافظة نابلس لحملة (أغيثوا أهلنا في
قطاع غزة) إبان كونه نائب رئيس غرفة تجارة وصناعة نابلس، من خلال تقديم تبرعات اهالي
ومؤسسات وفعاليات محافظة نابلس المعطاءة.
ولعل خامس مآثر الصديق الغالي (حسام) تكمن في حقيقة كونه فلسطينيا حقيقيا،
إذ كانت بوصلته وطنية خالصة. وكان قريبا من حركة فتح بل انه رئس قائمتها في
انتخابات الغرف التجارية (1992) مع حرص شديد على عدم وقوع أي خطأ في اتجاه بوصلته
الوطنية بحيث بقي إلى آخر يوم في حياته وفياً وصادقاً ومنتمياً لقضية الشعب الفلسطيني
وللقضية العربية، مثلما بقي – رغم عدم تحزبه - مشرعا أبوابه، في منزله العامر، لكافة
ألوان الطيف السياسي والحزبي من نقابيين وسياسيين ومثقفين.
عرفت المرحوم حسام، مثلما عرفت والده المرحوم عبد الرحمن، بدء من الثلث
الأخير من العام 1956، أي قبيل العدوان الثلاثي على مصر. وفي الأثناء، تعرفت على
فرع آخر لعائلة الحجاوي عطر السمعة كذلك، ضم أبناء المرحوم محمد حجاوي: الأصدقاء
الأحباء (حسام، وهشام، وعصام، وبسام، ونظام) الذين أصبحوا رفاق صداقة ورفاق درب
حيث لطالما جمعتنا "قوة الأمل" بالغد المشرق العزيز وبالأمة العربية الموحدة.
يومها، أدركت كم كان أبناء هذين الفرعين من آل الحجاوي متمسكين بالمبادئ السياسية
والوطنية لكن بدون تشنج. وحقا، وجدت هؤلاء الأبناء، سواء في فرع عبدالرحمن الحجاوي
أو فرع محمد الحجاوي، وجدتهم جميعا، في علاقاتهم مع أصحاب المبادئ الأخرى، وجدتهم دوما
رصينين حتى أقصى الدرجات، ومهذبين على أرفع مستوى. بل انهم لطالما شنوا "حروبا"
على المتطرفين الذين كانوا يوجهون الاتهامات والتخوينات للطرف المقابل.
اليوم، إذ أرثيك يا صديق العمر، يا أيها العصاميّ الفذّ، أشهد بأنك
لطالما كنت نجماً ساطعاً، ورجلاً من رجال الخير، ورائداً من رواد الإحسان، ومنهلاً
من مناهل الكرم الصادق، تنطق بأصالة الوفاء وجزيل العطاء وعمق الانتماء. كما كنت من
الذين تجنبوا الاستعراضية في العمل، والمزايدة في المواقف، والفوقية في العلاقات، والسطحية
في المعالجات، فبقي لك الموقع الاستثنائي في قلوب وفي عقول الآخرين. ولا غرابة في ذلك،
ففكرك إنساني، وسلوكك كذلك. وحتى اللحظات الأخيرة من حياتك، لطالما "فاجأتني"
(يا حسام الغالي) في لقاءاتنا المستمرة سواء في العاصمة الأردنية أو في عاصمة جبل
النار، بتفاؤلك التاريخي إزاء قدرة الأمتين العربية والإسلامية على النهوض من الكبوة،
مؤمنا بحتمية وحدة مواقفها، منتصرا لقضاياها وبخاصة قضية فلسطين، ومنحازا دوما إلى
الضعفاء في مواجهة الأقوياء.
رحيلك -يا أبا العبد- أخذ ما أخذه من روح حياتي مثلما أخذ بعضا مما تبقى من
أسباب استمرارها والإحساس ذاته غمرني يوم رحيل عديد رفاق الدرب الوطني والقومي، ولا
أقول الحزبي أو الفصائلي، رفاق المسيرة القومية المتنورة والتنويرية بغض النظر عن انتماءاتهم
السياسية أوالحزبية.
رحلت يا أخي الحبيب على عجل، في ظل جائحة كورونا البغيضة، في وقت كنا أحوج
ما نكون فيه إلى أفكارك وقناعاتك ومُثُلك الراقية، والتزامك الواثق بأرضك وشعبك وقضايا
أمتك وتراثك العربي، إثر ما غشي أمتنا ما غشيها من الظلم والقهر والجمود، وبعد ما تنكر
لنا الزمان، وقست علينا الأيام، وعصفت بنا رياح الإنقسام، وضاقت علينا الأرض بما رحُبت.
نم قرير العيْن يا (ابا العبد) ... فأنت ستبقى حيّاً في قلوبنا ، وفي قلوب
محبيك وما أكثرهم. وعزاؤنا ان سيرتك العطرة باقية. ومع إن رحيلك -ايها الفقيد الغالي-
يشكل لنا وللوطن خسارة لا تعوَّض، فإن حصادك من الذكر الطيب، الباقي بعد مسيرتك العملية
والمهنية الحافلة، حصاد فيه لنا جميعا عزاء ... إن أمكن العزاء!