هذه بضع حكايات حقيقية الأحداث، واقعية
الشخوص ومعظمهم أحياء أطال الله أعمارهم في ظلال طاعته، نعرضها للمقارنة بين ما
كان عليه واقعنا قبل عقدين من الزمان، وبين ما نحن عليه الآن للاعتبار فما التاريخ
إلّا ديوان للعبر كما وسمه ابن خلدون.
(1)
في سنة 1992 زرتُ بغداد، أعاد الله لها
الأمن والأمجاد، ومررت بشارع المتنبي، وفيه سوق السراي الذي تُعرض فيه آلاف الكتب
التي تخلّى عن أصحابها العزّ، ودفعهم العَوَز إلى بيع كتبهم، وكثير منها كتب نادرة
قيّمة قديمة طباعتها نافدة، فاشتريت مجموعة منها، وكنت طالباً في مرحلة الدكتوراة
في الجامعة الأردنية.
دخلت إلى المكتبة يوماً ومعي أحد هذه
الكتب، وعند خروجي أطلق الجهاز صفيراً، نظر الموظف في الكتاب فوجد اقتطاعات من بعض
الأوراق فعرض الأمر على د. صلاح جرار مدير المكتبة آنذاك، وكان بينه وبيني مودة
أفتخر بها واحترام كبير، لكن احترامه لوظيفته كان أكبر، فعرض الأمر على لجنة
مختصة، وبعد تروٍّ وفحص دقيق تبيّن أن هذا الكتاب كان من مقتنيات جامعة الكويت،
وأن تلك الجامعة تستخدم النبيطة ذاتها التي تستخدمها مكتبة جامعتنا الأردنية، لذلك
صفّر الجهاز. وقد ساءني جداً ما سببه لي هذا الأمر من إزعاج، فكتبت استدعاءً إلى
رئيس الجامعة بذلك، وعرضته على أستاذنا د. نهاد الموسى رئيس القسم قبل رفعه، فكتب
لي توقيعاً على هامشه: ( يا حفظي، أما وقد ارتفع اللبس، فلا داعي لأن تزعج بهذا
الأمر الرئيس أو الرأس.) كان مدير المكتبة أميناً حريصاً على مكتبته، وكان أستاذي
حكيماً حريصاً على سمعة طلابه وجامعته.
(2)
تقدمت للتعيين في الجامعة الأردنية،
وكنت محاضراً غير متفرّغ فيها. فُحصتْ أوراق عشرات المتقدمين، فاختير أفضلهم ليتمّ
اختبارهم فرادى في مقابلة مهيبة تضم أساطين اللغة العربية وأساتذتها الفحول، مثل:
المرحوم هاشم ياغي، والمرحوم محمود إبراهيم، والمرحوم اسماعيل عمايرة، ونهاد
الموسى، وحسين عطوان، ومحمود حسني.... . فتمّ ميز العدد الأفضل بعد المقابلة،
وكُلّف كلّ منهم بتقديم محاضرة واقعية حيّة بحضور ومراقبة نخبة من أساتذة القسم.
ثمّ انتظرنا النتيجة.
استدعاني د. عبد الجليل عبد المهدي إلى
مكتبه يوماً، وهو أحد أركان قسم اللغة العربية، وكان أحد الأعضاء الأساسيين في فحص
الأوراق والمقابلة والمحاضرة، وأنا ابن قريته وبيننا صلة قُربى، لكنني لم أسأله
يوماً عن أيّ أمر يتعلّق بالتعيين أو النتائج، وهو لم يخبرني حرفاً عمّا كان يدور.
استدعاني بعد أن قُضي الأمر، وأُعلنت
النتائج، وقال لي: لقد تمّ اختيارك، ولا يد لي في ذلك، فرغم أنني كنت أكثر
المتحمسين لك، إلّا أن العلامة التي قدرتها لك كانت أقل العلامات التي قدّرها لك
أساتذتك، فهنيئاً لك.( ملحوظة: نسّب القسم بالتعيين في تلك السنة إلّا أنه لم
يتمّ، فقد أجلت الجامعة الأمر.)
(3)
في سنة 1997 تقدمت للتعيين في جامعة آل
البيت، وطُلب كل من المتقدمين إلى مقابلة
مطولة يغمرها جلال العلم يتصدرها نحارير العلماء، مثل: يحيى الجبوري،
وداوود سلوم، وعبد الرحمن السعدي، وشكري الماضي... .
وكانت المقابلة امتحاناً، بل ابتلاءً
حقيقياً واختباراً للكفايات العلمية والشخصية والنفسية... . والخارج من المقابلة
كان يردّد:(أنجُ سعد، فقد هلك سعيد.)
ثمّ لقيت د. سمير الدروبي بعد أن ظهرت
النتائج وكان أحد أساتذة القسم الزائرين، فقال لي: قد انجلى الأمر الآن، ويحق لي
أن أخبرك مقدّراً لا مانّاً مستكثراً: لقد قدّرت لك علامة أعلى من العلامة التي
قدرتها لأخي" محمد الدروبي"، وكان قد تقدّم معنا، وتعيّن، ثمّ أصبح
عميداً عتيداً لكلية الآداب والعلوم، ثمّ نائباً للرئيس في عدّة جامعات وما زال.
(4)
تمّ تعييني في جامعة آل البيت، وتمّ
اختياري في لجنة لإعداد المناهج، وكان د. محمد عدنان البخيت رئيس الجامعة يحرص على
لقائنا ومناقشة تفاصيل ما يتم إعداده أولاً بأول، وكنا نعجب كيف يملك هذا الرجل
فائض وقت وفضل جهد ليتابع مثل هذا الأمر، وهو غارق في إنشاء جامعة تملأ الصحراء
حجراً وشجراً وعلماً وأملاً. كنت قد أجريت عملية انزلاق غضروفي قبيل بدء الدوام
بأيام، ولم أشأ أن أبدأ عملي بالغياب حتى لو كنت مجازاً طبياً، فانتظمت في الدوام
مضطراً إلى السواقة أكثر من 100 كم ذهاباً ومثلها إياباً كلّ يوم، وكان يعززني على
الملأ ويقول: حفظي يقطع خمس محافظات ويصل إلى الجامعة قبل أن تشرق شمس المفرق. في
لقائنا معه كنت متألماً وأكابر، وكانت مشاركتي في النقاش أقل من توقعه، تذكّرَ
وضعي الصحي فقام من مكانه وتوجّه نحوي وأخذ بيدي، وساعدني على النهوض عن الكنبة
غير المريحة التي كنت أجلس عليها، أزاحها جانباً، ثمّ أتى بكرسيّ خشبيّ آخر،
وساعدني على الجلوس، ثمّ عاد إلى مكتبه، فتذكرت عظمة عمر رضي الله عنه حين قال:
قمت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر.
وبعد أسبوعين طلب إليّ تزويده
باستقالتي من وزارة التربية والتعليم وكان قد بقي لي سنة فقط للحصول على تقاعد،
وحصلت على إجازة دون راتب للتعاقد مع الجامعة، فأصرّ على الاستقالة، وراجعه نائبه
الأكاديميّ د. عمر شديفات بشأني فقال: أنا أريد حفظي في هذه الجامعة أكثر منكم
جميعاً، لكنني أريد أن يحرق سفنه على بوابة الجامعة، ولا يلتفت إلى الوراء، فتكون
فرصته الوحيدة أمامه ليستقر ويبدع ويفيد.
واضطررتُ كارهاً إلى الاستقالة من
الجامعة حفاظاً على حقي في التقاعد، لكنني احتفظت لهذا الرئيس بصورة خُلقه العظيم،
ورحمته بالمدرسين، وحرصه الشديد على مصلحة جامعته والتزامه الحرفي بتعليماتها
النافذة العادلة الشاملة.
(5)
وأخيراً تقدمت للتعيين في إحدى
الجامعات، وبعد مدّة اتصل بي مدير مكتب الرئيس يخبرني بتعييني. كان اسم مدير
المكتب بدوياً أصيلاً غير مألوف بين أسماء هذا الزمن، فحملت الأمر على أنه دعابة
من أحد الأصدقاء لأنه كان يلمس لهفتي العارمة على التعيين وترقبي لحصوله.
اتصلت بمأمور المقسم وسألته عن اسم
مدير مكتب الرئيس فتأكدتْ لدي صحة الاسم والمعلومة. توجهت إلى الجامعة في اليوم
التالي، وقابلت الزميل الأوحد في تخصصي الذي تمّ تعيينه قبلي بسنة واحدة، ولم أكن
أعرفه أو يعرفني، وسألته: كيف تمّ تعييني؟
قال: استدعاني رئيس الجامعة، ووضع لي
معايير دقيقة تتعلّق بعلامات المتقدّم للوظيفة في مراحل دراسته، وعلامات للجامعة
التي تخرّج منها: أردنية أو عربية أو أجنبية، وعلامات للتخصص الدقيق، والرسائل
الجامعية، والبحوث الأكاديمية.... .
قام هذا الزميل وهو الأمين النزيه
بتفريغ بيانات المتقدمين وهم بالعشرات، فكنت الأوفر حظاً بينهم، وتمّ اختياري دون
أن أوسط أحداً أو أسأل أحداً أو أتصل بأحد.
تُرى: أين نحن الآن من مثل هذه الوقائع
في هذه الحكايات؟ هل نتحصن بالعدالة والنزاهة والموضوعية؟ هل ننأى بأنفسنا عن
الوساطات والإقليمية والضغوط الاجتماعية؟ هل نرفع أقدارنا عن التعصب المرضيّ
للقريب أو ابن المنطقة أو القرية؟ هل
يطمئن أحدنا إلى أن حقّه سيحصل عليه دون أن يكدّ ويشقى في السعي إليه؟ هل نحافظ
حقّاً على مقدرات جامعاتنا، ونتفانى، بتجرّد من الأثرة والأنانية والسمعة الشخصية،
في خدمتها وإعلاء شأنها والعدل في رعيتها؟
أسئلة مفتوحة تبحث عن جواب:
إن كنا كذلك فبها ونعمت، وإلّا فلم لا
نكون، ولم لا نعود إلى ما كنا عليه؟
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحُ.