بوابة
حينما أجتاح وباء "كوفيد
19" العالم في بداية العام المنصرم شرع
بإنتقاء ضحاياه إنتقاء، فسار بنحو غير محسوس عند البعض ومر مرور الكرام عند البعض
الآخر، بينما قسى وتجبّر وأمعن بالأذى عند شريحة مختارة من الناس، عانت من قهره
وألمه حد الخطر. فسّر الباحثون هذا التباين في تأثيرات هذا الفايروس الغريب على
البشر على أنه يهاجم بقسوة من ضعفت مناعتهم ويصد عمّن يمتلك مناعة أقوى. ماهي
المناعة إذن ولماذا تختلف بين شخص وآخر؟.
المناعة هي حصن الإنسان وخطوط دفاعه ضد العدو المهاجم من جراثيم
الفايروسات والبكتريا وكذلك الفطريات وغيرها من أجسام غريبة تهاجم الجسم وتخترق أركانه. فكما يحمي الجيش
الوطن تحمي المناعة الإنسان من المهاجمين وبخطوط دفاعية أولى وثانية وثالثة، ففي
التهابات الجهاز التنفسي " على سبيل المثال وليس الحصر" تكون الشعيرات
المتواجدة في داخل الأنف والمواد المخاطية المبطنة للجهاز التنفسي هي الخط الدفاعي
الأول أمام الجراثيم. بينما تكون كريات الدم البيضاء المختصة في مهاجمة الجراثيم
هي الخط الدفاعي الثاني، أما الخط الدفاعي الثالث فهو الخلايا المناعية وهي خلايا
لمفية تقع بنوعين أساسيين وهما " الخلية
اللمفية البائية" التي تنتج المضادات الجسمية التي تلتف حول الجرثومة وتحيدها
عن مهاجمة خلايا الجسم و"الخلية اللمفية التائية" التي تقوم بدور مباشر بمهاجمة
الجراثيم وكذلك الخلايا الموبؤة بهذه الجراثيم وتخلص الجسم منها.
مناعة الإنسان تضعف بسوء التغذية أو بتقدم العمر وبالسمنة المفرطة
وبتناول أدوية مهبطة المناعة مثل مركبات الكورتيزون أو لدى المرضى الذين يعالجون
بالأشعة أو الكيمياوي أو من لديهم أمراض مزمنة كالالتهابات المزمنة وداء السكري
والسرطانات أو من يعانون من أمراض الجهاز المناعي نفسه وغيرها. السؤال الذي يطرح
نفسه هو إن كان سوء التغذية هو أحد عوامل نقص المناعة، فما هو حكم الصيام الذي
يجعل الإنسان ممتنعا عن الطعام لفترة طويلة من يومه، ومالذي يحصل لمناعته جراء الصيام
!؟. هل يجوز صوم شهر رمضان في ظل جائحة كورونا التي يعتمد مصير الإنسان فيها على
درجة مناعته المعتمدة قطعا على حالته الغذائية؟. أجابت على هذه التساؤلات الهامة
كثير من البحوث والمقالات الطبية المنشورة في المجلات الطبية العالمية التي تناولت
أثر الصيام على مناعة الإنسان وبالتالي حكم الصيام في ظل جائحة كورونا. من بين هذه
المقالات والبحوث هي المقالة االمنشورة في المجلة العالمية
المعروفة بإسم " حدود التغذية" الصادرة في سويسرا وفي عددها الصادر في
الثالث عشر من كانون ثاني" يناير" عام 2021 ، وكذلك المقالة الطبية التي
نشرت في مجلة طبية أوربية "مجلة رسائل علم المناعة" في شهر تشرين أول "أكتوبر"
من عام 2020 ، إضافة الى التوجيهات المؤقتة التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية
والتي بينت فيها أن الصوم أمين لدى الأصحاء أثناء جائحة كورونا وذلك في 15 أبريل
عام 2020.
أتفقت كل هذه الأبحاث والمقالات على أن الصوم المتقطع له منافع صحيّة
كثيرة لدى الإنسان تطيل من خلالها عمر الإنسان من جهة، وتمنع أو تخفف من الإصابات
بأمراض القلب والأوعية الدموية والإلتهابات وداء السكري والإصابة بالخرف من جهة
أخرى. كما بينت أيضا أثر الصيام على تقوية الجهاز المناعي عند الإنسان وذلك من
خلال الميكانيكيات التالية :
أولا : الصوم يقلل من أثر الإلتهابات على الجسم وخصوصا عند الذين
يعانون من مرض الربو والسمنة المفرطة والروماتيزم. ذلك من خلال تقليل مستويات
المؤشرات الحيوية الإلتهابية. وهكذا يقل أيضا مستوى الكريات البيضاء في الدم بينما
يتحفز الإلتهام الذاتي والحيوية الخلوية للجهاز المناعي.
ثانيا : في الصوم ينقص الوزن وتقل الكتل الدهنية المتجمعة داخل
الجسم فتنخفض نسبة الشحوم والكولسترول في الدم وهي مثبطات مناعية معروفة.
ثالثا : في الصيام ينقلب النظام الغذائي وتنتظم عملية التمثيل الغذائي
وتتحفز التغيرات الفسلجية التي تؤول الى إصلاح الحمض النووي " DNA"
وبالتالي يستجد التنظيم المناعي عند الإنسان.
رابعا : في الصيام يقل الإجهاد التأكسدي وتزداد حساسية الأنسولين مما
يحفظ الجهد المناعي عند الإنسان.
خامسا : عند الصوم يقل مستوى السايتوكينات في الدم أمثال "
أنترفيرون ألفا " و " أنترليوكين 1،2،3 و 6". حيث قد يمنع الصيام من خلال ذلك حصول
"عاصفة السايتوكين" القاتلة التي قد تحصل كردة فعل مناعية ضد الفايروس أو
على الأقل يخفف من درجتها. هذه العاصفة السايتوكينية قد تحصل في كل الأعمار خلال الإصابة بـ " كوفيد19" وقد تسبب الموت.
كل هذه الأمور تشير بأن الصيام المتقطع مفيد مناعيا للإنسان مما يجعله
أكثر حصانة أمام " كوفيد19" وليس العكس، على شرط أن يكون المرء متمتع
بصحة جيدة ولا يوجد لديه مرض أو علة أخرى تتعارض مع الصيام. كما أنه يجب أن يكون
مفهوما بأن الصيام ممنوع طبيّا عند المرضى بكوفيد19، بمعنى آخر أن الشخص المصاب
بكوفيد19 لا يجوز طبيّا له الصيام. السبب
في ذلك أنه يعاني على الأغلب من الحمى التي تخلق عنده حالة من الجفاف تحتم عليه
تناول الماء مرارا في اليوم لتجنب جفاف الجسم من جهة، ومن جهة أخرى يجب تناول بعض
العقاقير أثناء المرض خصوصا مسكنات الوجع والحرارة وكذلك الفيتامينات والعناصر مثل
" فيتامين دي وفيتامين سي والزنك"، ومميعات الدم التي يحتاجها المصاب بالفايروس
أثناء مرضه. فوق هذا وذاك يكون المصاب في
حالة حرجة أثناء مرضه تتطلب تغذية ضمن نظام غذائي متوازن وكامل لمد نظامه المناعي
المتحفز بما يلزم ومن دون إنقطاع.
من الضروري الفهم بأن الصائم يجب الاّ يبالغ في كمية الغذاء عند
الإفطار كي تتم الفائدة ولا يحصل الضرر، إذ لا فائدة من الصيام صحيّا أن كان
الإفطار مبالغ فيه ويحتوي على الكثير من المواد الدهنية والسكرية المضرة في صحة الإنسان.
الإفطار يجب أن يكون نظام غذائي صحي متوازن بالنوعية والكمية إذ يحتوي على مواد
ضرورية مضادة للأكسدة وللإلتهابات ومستوفية لشروط بناء المناعة مثل " البطاطا
الحلوة، البروكولي والسبانخ والفطر، الأسماك، الدواجن، الثوم، الكركم، الفلفل
الأحمر، العسل، الشكولاته الداكنة، الحمضيات، التوت، المكسرات مثل اللوز، اللبن،
الشاي الأخضر، الزنجبيل، وغيرها" كما أن الصائم يجب أن يشرب الكمية الكافية من
الماء أثناء الليل كي يضمن حاجة جسمه له خصوصا في الأيام الحارة. تقوية المناعة في
الصيام لا تعني أبدا أن الشخص أصبح في حصانة كافية من الجراثيم تجعله لا يلتزم
بأصول توقي الإصابة بالفايروس، بل على العكس عليه الإلتزام بأصول الوقاية من
الوباء التي تتضمن مبدأ التباعد الإجتماعي وتجنب الأماكن المزدحمة، لبس الكمامات،
غسل اليدين والوجه، ممارسة الرياضة والتمارين الرياضية والمشي وغيرها من النصائح
المعروفة لتجنب المرض.
ملخصا لما ورد فأنه وطبقا للأبحاث العلمية الطبية قد تبين أن الصوم
المتقطع يعيد تجديد نظام المناعة عند الأشخاص الأصحاء مما يتيح لهم الصيام شريطة
الإلتزام بنوعية وكمية الغذاء المتناول في الإفطار الذي يجب أن يكون بمواصفات
مفيدة للصحة وغير ضارة. كما أن المصابين في هذا الوباء عليهم عدم الصيام أثناء
مرضهم مهما كانت درجة المرض خفيفة من أجل تلبية متطلبات مرحلة المرض الغذائية
والدوائية.
أخصائي علم الأمراض - بروكسل