بقلم: د. محمد مسلم الحسيني
في الإنتخابات الأمريكية التي جرت في الثالث من شهر تشرين ثاني
"نوفمبر" الجاري، فاز نائب الرئيس الأمريكي السابق" جو بايدن"
على غريمه في الإنتخابات الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية " دونالد
ترامب"، بفارق أصوات شعبي كبير فاق الخمسة ملايين صوت وتجاوز الحد الأدنى المطلوب
للفوز في أصوات الولايات الذي حدد بـ "270" صوتا. كما كان متوقعا من ردة
فعل غير طبيعية فأن "دونالد ترامب" لم يعترف بهزيمته في هذه الإنتخابات وأعتبر
فوز المرشح الديمقراطي " جو بايدن" عليه هو محض إفتراء وتزوير! عدم تنازل "ترامب" عن السلطة لحد
الآن بل وتصريحه بأنه هو الفائز بالإنتخابات على المرشح الديمقراطي الفائز"
جو بايدن" رغم نتائج الإنتخابات المعلنة، لم يمنع رؤساء الدول أو رؤساء
وزرائها من تقديم التهاني والتبريكات للرئيس المنتخب "جو بايدن". نزر
قليل من الدول صمتت ولم تبارك لـ "بايدن" في بداية المطاف! وهي البرازيل
وروسيا والمكسيك والصين. الرئيس البرازيلي الشعبوي" جايير بولسونارو"
يعتبر خسارة " دونالد ترامب" في الإنتخابات خسارة له لأنه سيفقد مناصرا
له وعضيد وسند حيث يشترك الإثنان في الرؤى والسياسة والنهج. أما الرئيس الروسي"
فلاديميربوتين" فهو صديق حميم لـ "دونالد ترامب" وتربطهما مصالح
مشتركة بدأت قبل إنتخاب " ترامب" عام 2016م لرئاسة الولايات المتحدة
الأمريكية وأمتدت بعدها. كانت العلاقة بين الرئيسين مدار جدل ونقاش وتحري وصلت الى
درجة الإتهام بعمالة " ترامب" لروسيا، مما تمخض عن هذا تحقيق قضائي مضني
وطويل تعرض له الرئيس " ترامب" منذ بداية حكمه! وهكذا وضمن سياق هذه
العلاقة الخاصة بين الرئيسين فلا يستغرب المراقب موقف الرئيس الروسي بعدم
الإستعجال في مباركته للرئيس المنتخب الجديد "بايدن".
تحليل أسباب تريث الصين، في المباركةلـ " بايدن" على فوزه
في الإنتخابات تختلف تماما عن غيرها وذلك لأن الصين ليست بلدا حليفا وصديقا
لأمريكا ترامب ولا تربط الرئيس الصيني " شي جين بينغ" علاقة صداقة ومحبة
مع " ترامب"، بل على العكس فقد عانت الصين الأمرين من مواقف وسياسات
ترامب الإقتصادية ضدها. لقد شن " ترامب" حربا إقتصادية بسوس منذ إستلامه
دفة الحكم وفرض ضرائب قاهرة على البضائع الصينية المستوردة مما أثر سلبا على
الميزان التجاري الصيني الأمريكي وقلص النمو الإقتصادي في الصين خلال فترة هذه
الحرب الإقتصادية غير المسبوقة. مقالب ترامب التي إستمرت طول فترة حكمه ضد الصين
لا تجعل الصينيين متأسفين على رحيله عن السلطة بل على العكس من ذلك، فرحيله فرج
لهم وراحة بال. لابد للمراقب إذن البحث عن أسباب أخرى تجعل الصين تتريث في قرار
مباركة " بايدن". هناك دون شك أسباب كثيرة تبرر الموقف الصيني تشترك
جمعا أو فرادا في تحليل وشرح موقف الصينيين هذا.
الصينيون يدركون تماما بأن " ترامب" جريح يرفس من ألمه
والإقتراب منه بشكل أو بآخر قد يفضي برفسة موجهة أو ضائعه قد تصدر منه لا تحمد
عقباها! مباركة " بايدن" في الوقت الحالي ستثير غضب "ترامب"
الرافض لنتائج الإنتخابات وسيعتبرها عملا موجها ضده من قبل الصين "الغريم
الإقتصادي" له والذي إتهمها بالإشتراك في مؤامرة مع الديمقراطيين ضده. إغضاب
شخص مثل " ترامب" الذي يتصف بصفات "سايكوباثية"، قد تجعله لا
يتورع أبدا في الإنتقام وإعلان ردات فعل صارمة قد لا تتناسب مع الفعل نفسه! فليس مستغربا
على "ترامب" وهو لا يزال يمارس عمله كرئيس لأمريكا ولازلت السلطة بيده،
أن يفرض عقوبات إقتصادية وضرائب إستثنائية أخرى على البضائع الصينية في أي وقت.
ليس صعبا على " ترامب" إيجاد الحجج لمعاقبة الصين فقد هدد مرارا وتكرارا
بالإنتقام من الصين بسبب وباء كورونا. تجنبا لردود أفعال كهذه في متناول يد
"ترامب" حيث يستطيع فعلها ضد الصين أكثر من غيرها من البلدان، دفع الصين
للتريث عن هذه المباركة لأنها لا تريد تحريك ساكن في شخص غير ساكن !.
هناك من يحتمل أيضا بأن الصين قد تذهب بعيدا في تفكيرها حيث تحتمل أن
" دونالد ترامب" سيتمسك بالسلطة ولا يعترف بهزيمته وسوف يفرض الأمر
الواقع على الساحة على أنه هو الفائز وأن غريمه قد زور الإنتخابات..... خصوصا
هؤلاء الذين يراقبون طبيعة هذا الرجل الغريبة وتصرفاته الإستثنائية غير المسبوقة،
وطبيعة مؤيديه من الجمهوريين الذين يقفون خلفه في السراء والضراء ويصدقون أكاذيبه،
مدعوما بقاعدة شعبيّة صلبة تناصره ظالما ومظلوما. هذا الإحتمال عززته تصرفات
" ترامب" الأخيرة بعزله لوزير دفاعه "مارك إسبر" وبعض كبار
مسؤولي البنتاغون الذين يشك في ولائهم له، إضافة الى طرد بعض المسؤولين الآخرين في
الدوائر الحساسة في الدولة كرؤساء الدوائر الأمنية الهامة في البلاد أمثال "جينا
هاسبل" مديرة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الـ " سي آي أيه"
وتهديده بطرد " كريستوفر راي" مديرمكتب التحقيقات الفيدرالي الـ "
أف بي آي". هذه الأفعال تعزز الشكوك القائلة بأن " ترامب" يشرع
بإجراء إنقلابا على الشرعية وعلى أصول الديمقراطية بعد أن صار ينظف ساحته من
المعارضين أو ممن يشك في ولائهم له من كبار مسؤولي الدولة خصوصا أولائك الذين بيدهم
السلطة والقوة ككبار رجال الجيش والشرطة والمخابرات والأمن. إضافة الى هذا وذاك، فحكام
محكمة التمييز العليا غالبيتهم من الجمهوريين، حيث ساعده الحظ في أن يجعلهم كذلك
إذ ينتظر منهم أن يقفون الى جانبه في أي نزاع قضائي ستراتيجي يحصل أمامهم !
من تابع خطابات "ترامب" أثناء مناظراته التي جرت مع غريمه
"بايدن" قبيل الإنتخابات، فأنه سيجد رفضه بإدانة القوى العنصرية
المتطرفة واضحا، بل أصدر تعليماته بين السطور لهم بأن يقفوا جانبا وفي الخلف، هو
إشارة قوية بأن " ترامب" يريد إستخدام هؤلاء في وقت الحاجة كقوة ضاربة
تقف جنبه في حال حصول نزاع شعبي مسلح مع معارضيه!. ثم أن بيع الأسلحة في أمريكا قد
صار مكثفا الى درجة أن نفذت المحال التجارية التي تبيع هذه الأسلحة من بضاعتها
قبيل الإنتخابات! كل هذه الأمور مضافا لها طبيعة " ترامب" السايكولوجية
ومرضه المشخص "النرجسية الخبيثة" وصفاته السايكوباثية الواضحة من جنون
عظمة وحب الأنا وحب السيطرة والنزاع، فأن المراقب قد يجمع كل هذه المعطيات ويحتمل
بأن "ترامب" متجه نحو التمرد على أسس الديمقراطية ومسارها!
قد يفسّر البعض بأن الصينيين قد صدقوا إدعاءات ترامب بوجود تلاعب في
الإنتخابات وأن " ترامب" قد يكون محقا في وجود تزوير وتلاعب في أصوات
الناخبين، مما جعل الصينيين يتريثون لمراقبة الموقف ومعرفة الفائز الحقيقي في هذه
الإنتخابات. هذا التصور قد لا يكون واقعيّا، لأن إحتمال التزوير ،ومهما كانت درجة
الصحة فيه، فهو لا يصل الى الحد الذي يجعل " ترامب" فائزا في هذه الإنتخابات
في كل الأحوال، حيث أن الفارق في عدد الأصوات بين المرشحين كبير والتزوير المفترض
ومهما كانت درجته لا يفضي الى هذا الفارق المعلن في الأصوات. فوق هذا وذاك، فأن
إدعاءات " ترامب" بتزوير الإنتخابات غير مستندة على حجج دامغة وبراهين
بل هي مجرد إفتراءات أعلنها قبيل الإنتخابات أصلا، ليبرر فشله حال فوز غريمه
وإنتصاره عليه. لم يعلن لحد الساعة عن أي خرق أو تزوير أو تلاعب من قبل لجان
الإنتخابات الأمريكية المحايدة والتي هي مراقبة من قبل كلا الحزبين المتنافسين.
ومهما يكن من أمر، فلو كانت إدعاءات التزويرهذه قابلة للإحتمال والصحة، لما تبارى
رؤساء غالبية دول العالم وكبار مسؤولييها مباركة "بايدن" منذ أن أعلنت
النتائج ومن بينهم بعض أصدقاء "ترامب" ومناصريه أمثال رئيس وزراء
بريطانيا "بوريس جونسون" ورئيس وزراء "إسرائيل" "
بنيامين ناتانياهو".
مهما كانت أسباب تريث الصينيين في مباركة الرئيس المنتخب "جو
بايدن" فموقفهم هذا في التريث صائب جدا لأنهم سوف لن يخسرون ود الرئيس
المنتخب "جو بايدن" وذلك لتفهمه لموقفهم، ومباركتهم له حتى وإن جاءت
متأخرة سوف لن تغير شيئا من جهة، ولتجنب ردود أفعال سيئة محتملة ضدهم قد يتخذها
الرئيس الحالي" دونالد ترامب" أن تسارعوا في المباركة، حيث لا تزال
السلطة بيده وقادر على إتخاذ أي إجراء خطير ليس في الحسبان، من جهة أخرى!.