بقلم: المحامي د. رمزي رشدي الدبك
سيسجل التاريخ الحقوقي المعاصر تاريخ
الخامس من شباط من عام 2021م باليوم الذي (أزيلت) فيه العقبة الأخيرة في طريق
تحقيق دولي في جرائم الحرب المرتكبة من قبل (الكيان الصهيوني) بحق البشر والشجر
والحجر في فلسطين المحتلة ،حيث وأخيرًا وافقت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي
على طلب المدعي العام فتح السير في الإجراءات القانونية بشأن جرائم الحرب في
الأراضي الفلسطينية المحتلة ويشمل ذلك ( الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية).
البداية كانت في كانون الأول من عام 2019م حينما خلصت المدعية العامة للمحكمة
الجنائية الدولية (فاتو بن سوندة) إلى أن النتائج الأولية التي وجدتها المحكمة
تشكل (أساسًا كافيًا) للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها المسؤولون الإسرائيليون
و"الجماعات الفلسطينية" في الأراضي المحتلة وأن المحكمة لديها اختصاص
نوعي للنظر في تلك الجرائم.
وأثار القرار غضب الكيان الصهيوني
وحلفائه الغربيين في ذلك الوقت ، الذين أصروا على أن المحكمة الجنائية الدولية ليس
لها اختصاص لأن فلسطين حسب زعمهم ليست
دولة مستقلة ودللوا على ذلك بعدم وجود حدود معترف بها لفلسطين . وبناءً على ذلك
أحالت (بن سوندة) المسألة إلى الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية ( ICC Pre-Trial Chamber) ، وطلبت إصدار قرار
" بشأن نطاق الاختصاص الإقليمي (المكاني) للمحكمة في حالة دولة فلسطين".
وقد قررت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بالأغلبية ، أن
الاختصاص الإقليمي للمحكمة في حالة دولة فلسطين ، (وهي دولة طرف في نظام روما
الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية) ، يمتد ليشمل الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ
عام 1967م ، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية .
ما تقدم يثير العديد من التساؤلات
والاستحقاقات ويؤكد على العديد من الحقائق أيضاً ،ويمكن إجمال ذلك على النحو
التالي:-
1.
أكد ّ القرار على أن فلسطين (دولة) للغايات المقصودة في نظام روما الأساسي
وبالتالي فهي (عضو) في النظام :
وفي ذلك فإن المحكمة وفي معرض إجابتها
على إدعاء الكيان الصهيوني بأن فلسطين ليست دولة و"كيان" غير معروف
الحدود ، أجابت المحكمة بأنه ليس من اختصاص المحكمة الإجابة على سؤال إذا ما كانت
فلسطين دولة أم لا ؟؟ حيث ان ذلك أمرٌ سياسي بالغ التعقيد وبالتالي يخرج عن اختصاص
المحكمة. لكن الدائرة أكدت على استنتاجها بأن فلسطين دولة طرف في نظام روما
الأساسي وبالتالي تعتبر هي (الدولة التي وقع السلوك المعني على أراضيها) المادة
12/2/أ من النظام.
ونوهت المحكمة انه وبالرغم من أن هناك سبعة دول، وهي جمهورية التشيك
والنمسا وأستراليا والمجر وألمانيا والبرازيل وأوغندا، قدمت اعتراضات على قبول
فلسطين كدولة طرف أمام المحكمة مؤخرا ، إلا أن هذه الدول كانت "التزمت
الصمت" عند انضمام فلسطين في العام 2015م، ولم تعترض أي منها على انضمام
فلسطين أمام جمعية الدول الأطراف في ذلك الوقت أو بعده. وهكذا، فإن انضمام فلسطين
إلى النظام الأساسي اتبع الإجراءات الصحيحة.
2. أكدت
المحكمة اختصاصها القضائي والنوعي بالنظر في الجرائم التي ترتكب على الأراضي
الفلسطينية المحتلة عام 1967م :
وفي هذا وضحت الدائرة التمهيدية بأن إقليم دولة فلسطين يشمل الضفة الغربية
وقطاع غزة والقدس الشرقية، استناداً لقرار الأمم المتحدة رقم 67/19 لعام
2012م. وبالتالي يسري اختصاص المحكمة
القضائي على هذا الإقليم. وبما أن الأطراف لم يتفقوا على حدود معينة وفقاً
لاتفاقية أوسلو، تبقى الحدود على أساس القانون الدولي.
ونوهت الدائرة التمهيدية في قرارها إلى أن تطبيق وتفسير القانون يجب أن
يكون متسقًا مع حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا، ومن هذه الحقوق الحق في تقرير
المصير والذي تم الاعتراف به صراحة للشعب الفلسطيني من قبل هيئات مختلفة، بما في
ذلك محكمة العدل الدولية. وقد ربطت الجمعية العامة للأمم المتحدة باستمرار حق
الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بالأرض الفلسطينية المحتلة التي تم ترسيمها بالخط
الأخضر، وشددت على الحاجة إلى احترام الوحدة الإقليمية والتواصل وسلامة جميع
الأراضي الفلسطينية المحتلة والحفاظ عليها. وأعاد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة
التأكيد على ذلك وأكد أنه لن يعترف بأي تغييرات على خطوط 4 حزيران 1967م، بما في
ذلك ما يتعلق بالقدس. وعلى ضوء ذلك، وجدت الدائرة التمهيدية أن الاختصاص الإقليمي
للمحكمة في وضع فلسطين يمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967م، أي
غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.
3. القيود
الواردة في اتفاق أوسلو لا يؤثر على ممارسة المحكمة لاختصاصها:
أوضحت الدائرة التمهيدية رأيها فيما يتعلق باتفاقيات أوسلو، وما تم اثارته
بخصوص أن اتفاقية أوسلو التي جرى توقيعها بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة
الإسرائيلية عام 1993م، تمنع القضاء المحلي الفلسطيني من ممارسة اختصاصه على حملة
الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي لا يجوز لفلسطين تفويض هذا الاختصاص الذي لا تملكه
أصلا للمحكمة الجنائية الدولية.
وهنا وضّحت الدائرة التمهيدية أن هذا
الأمر لا يتعلق بقرار الدائرة التمهيدية بإقرار اختصاص المحكمة القضائي على إقليم
دولة فلسطين، وأن هذه المسألة يمكن إثارتها حين تقوم أو إذا ما قامت المدعية
العامة بإصدار مذكرات توقيف او اعتقال بحق المتهمين لاحقاً، بحيث يمكن حينها
الادعاء أن تنفيذ الطلب من قبل فلسطين سيتطلب منها خرق التزام تعاهدي قائم مسبقًا
تم التعهد به لدولة أخرى، عملاً بالمادة 98 من نظام روما الأساسي، التي تنص على
أنه لا يجوز للمحكمة تقديم طلب لدولة قد يجعلها تتصرف بشكل غير متسق مع التزاماتها
بموجب قواعد الحصانة الدبلوماسية أو الاتفاقات التي تقيد صلاحياتها.
4. ما
هي الجرائم التي سيتم التحقيق فيها وهل يمكن أن تشمل دولا أخرى تدعم الكيان
الصهيوني بالسلاح مثلا؟
من المهم التنويه ابتداءاً إلى أن الدائرة التمهيدية أشارت إلى أنه وعلى
الرغم من أن المدعية العامة لم تعلن رسميًا أنها فتحت تحقيقًا في الوضع الحالي،
فإن هذا التحقيق من حيث المبدأ قد فُتح بالفعل من الناحية القانونية، كما أن
المدعية العامة كانت قد حددت عددا من القضايا المحتملة لغايات "المقبولية"،
ومنها جرائم يُدَّعى بارتكابها من قبل السلطات الإسرائيلية او حماس اوالجماعات
الفلسطينية المسلحة الأخرى.
ومن حيث المبدأ يمكن للمحكمة أن تحقق
في جرائم الحرب (كالقتل العشوائي وعدم التمييز وهدم الممتلكات والاستيطان). وهذا
ما كانت ذكرته المدعية العامة في تقريرها قبل عام. ولكن يمكن للمحكمة أيضاً أن
تقوم بالتحقيق في جرائم أخرى كالفصل العنصري والجرائم ضد الإنسانية الأخرى، ولكن
ذلك يستدعي أيضاً تقديم ملفات ووثائق وأدلّة وبينات تدعم أي إدعاء بأن هكذا جرائم
تم ارتكابها في إقليم فلسطين.
وبالنسبة لشمول دول أخرى يعود ذلك إلى قواعد
القانون الجنائي. ولكن بالمبدأ بالتأكيد إذا ثبت أن هناك "مشاركة
أساسية" من قبل دول أخرى أو حتى شركات في الأعمال التي تعد جرائم حرب في
فلسطين، فسوف يكون ذلك ضمن نطاق مسؤولية المحكمة.
5. ما
هي طبيعة الاختصاص الزماني للاختصاص القضائي للمحكمة؟
بشكل عام يسري اختصاص المحكمة على
الجرائم التي تم ارتكابها بعد تاريخ 1 تموز 2002م، وهو تاريخ بدء سريان نفاذ نظام
روما الأساسي. وفي حالة دولة فلسطين ُيفترض أن يسري اختصاص المحكمة من الوقت الذي
أصبحت فيه فلسطين رسميا عضوا في المحكمة وهو نيسان 2015م. إلا أن المادة (12/3) من
ميثاق روما توضح أن الدولة تستطيع الطلب من المحكمة أن تمارس اختصاصها على جرائم
تم ارتكابها قبل بدء سريان ميثاق روما بالنسبة لها. وهذا ما فعلته دولة فلسطين،
حيث قامت بإيداع طلب لدى المحكمة أعلنت فيه موافقتها على ممارسة المحكمة لاختصاصها
القضائي على إقليم دولة فلسطين منذ تاريخ 13/6/2014م. أي منذ بدء الحرب على قطاع
غزة في ذلك الحين والتي امتدت أكثر من 50 يوماً.
6. سيطرة
حماس على قطاع غزة، وهل يمكن أن نشهد محاكمة لفلسطينيين من الجماعات المسلحة أمام
المحكمة؟
لم تتطرق المحكمة إلى هذه المسألة بشكل مباشر، ولكن يُفهم ضمنياً من خلال
قرارها مبدأ التعامل مع الأراضي الفلسطينية كوحدة جغرافية واحدة بالرغم ممن يسيطر
عليها. هذا الأمر يعتمد على معيار قانوني وهو أن الأرض المحددة تدخل في اختصاص
المحكمة بما أنها تتبع للدولة ويعيش عليها مجموعة من السكان تم ارتكاب جرائم بحقهم
بغض النظر عمّن يبسط سيطرته عليها.
أما فيما يتعلق بإمكانية تعرض
فلسطينيين من الجماعات المسلحة للمحاكمة فتجدر الاشارة الى أن المدعية العامة
للمحكمة كانت قد أشارت إلى جرائم يمكن أن تكون "مجموعات فلسطينية مسلحة قد
ارتكبتها"، مثل ما يسمى بالصواريخ العشوائية واستخدام المدنيين دروعاً بشرية،
وهو أمر أشارت إليه المحكمة باقتضاب ودون تفاصيل. والأيام القادمة ستظهر هذا الأمر
أكثر. لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار بعض المسائل مثل: حق تقرير المصير والذي ينبثق
عنه الحق في مقاومة الإحتلال، وكذلك مبدأ الحق في الدفاع عن النفس حيث ان الكثير
من أفعال المقاومة الفلسطينية تقع في إطار الدفاع عن النفس. فضلا عن ذلك فإن
الغالبية من المسؤولين والناشطين في حركات المقاومة والمجموعات المسلحة الفلسطينية
تمت محاكمتهم ، ومنهم الكثير في السجون الإسرائيلية وحصلوا على أحكام مشددة (أكثر
من مؤبد)، وهناك مبدأ أساسي في المحكمة بعدم جواز المحاكمة على الفعل ذاته مرتين.
أخيراً وليس أخراً ، هذا القرار هو
نتاج معركة قانونية طويلة أمام المحكمة بدأت منذ عام 2009م، وانتهت في 5 شباط
2021م ، الذي يعتبر يوم تاريخي بالنسبة للضحايا الفلسطينيين ومسألة الاحتلال
الإسرائيلي. ولولا الجهد المبذول في تقديم الحجج القانونية أمام المحكمة لما كنًا
أمام هذا القرار.
وتكمن أهمية هذا القرار في أن المحكمة
تتعامل مع فلسطين باعتبارها دولة طرف في ميثاق روما يتم معاملتها مثل ما يتم
معاملة الدول الأطراف الأخرى في ميثاق روما، وأن حدود إقليم دولة فلسطين التي يسري
عليها الاختصاص القضائي للمحكمة هي حدود عام 1967م، أي الضفة الغربية وقطاع غزة،
والقدس الشرقية. وهذا بدوره يدحض جميع الادعاءات والمداخلات التي قدمت للمحكمة بأن
فلسطين غير دولة وبالتالي لا يجوز لها التمتع بعضوية ميثاق روما، كما أن المحكمة
قالت إن مسألة الحدود هي محددة بموجب القانون الدولي العام، وبالتالي فإن هذا يدحض
جميع الادعاءات التي كانت تدور حول أن مسألة حدود فلسطين غير محددة وأنها أحيلت
للحل السياسي عبر المفاوضات التي تنظمها اتفاقية أوسلو. المحكمة بوضوح قالت بأن
الاطراف يمكن أن يتفقوا على ما يشاؤون، ولكن طالما لم يتفقوا بعد، فالحدود قائمة
على أساس قواعد القانون الدولي.
وعلى الرغم من أهمية هذا القرار ألا أن
أهميته تتجاوز مضمونه بإقرار الدائرة التمهيدية بسريان اختصاص المحكمة على إقليم
دولة فلسطين إلى أمور أخرى مهمة في السياق الدولي. حيث يُفهم من القرار أنه قد آن
الأون لتوقف الكيان الصهيوني عن استمراره في ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين
العُزَّل.
وهذا القرار يعطي أرضية جيدة لبدء دولة
فلسطين استثماره والبناء عليها في قضايا مثل بناء المستوطنات، مدينة القدس وتهجير
أهلها، الحدود وحق العودة لللاجئين .
المرحلة القادمة هي مرحلة دقيقة تحتاج لكادر محترف ليقطف ثمار الجهد
المتراكم. يجب أن تكون المرحلة القادمة بعيدةً عن العمل السياسي وأن تتضمن
أكاديميين وخبراء وحقوقيين وباحثين من أجل النظر في قضايا هامَّة وشائكةً كالأسرى
والاستيطان والفصل العنصري والتهجير والحرب على غزة بشكل متفحص ودقيق، وتدعيمها
قانونيا، وإسناد الجرائم لمرتكبيها، مع التأكيد على ضرورة استمرار التوثيق للجرائم
والانتهاكات الإسرائيلية.
وعلى نقابة المحامين الاردنيين حاضنة
القانونيين الأردنيين وسيف الحق والعروبة أن تقوم بدور مؤملٍ منها، يتمثل بمساندة
نقابة المحامين الفلسطينيين (التي كان لها دور مهم في الوصول لهذا القرار من خلال
المذكرة التي تقدمت بها للمحكمة) ، وذلك على سبيل المثال بأن تقوم النقابة بتشكيل
كادر قانوني من المحامين الدوليين من أعضاء هيئتها العامة للمساهمة في المرافعات
واعداد التقارير والمطالعات القانونية الى جانب المحامين الفلسطينيين.
وبالخلاصة هذا القرار يفتح المجال أمام معركة قانونية جديدة تقتضي من الطرف الفلسطيني ومؤيديه البدء في
تجهيز القضايا والشكاوى والبدء بحصر قائمة الجرائم والأشخاص المسؤولين عنها. علَّ
العدالة أن تسود يوماً....