هذه حكاية يصعب تصديقها، لذلك نرجو افتراض أنها بنت الخيال، لكنّ
فائدتها تتجلّى بما فيها من اعتبار، وفي إضاءات قد تتقاطع مع واقع الحال.
أستاذ جامعيّ بدأ عمله في جامعته منذ أكثر من 20 عاماً، أمضاها جادّاً
في مسلكه مجتهداً في أداء مهمته، متحصناً بالاستقامة والخُلق، مبتعداً عن التزلّف
للمسؤولين، زاهداً في المناصب والمكاسب، مترفعاً عن كلّ دنيّة، عزيز النفس ينأى
بها عن كلّ تطفّلٍ وفضول.
تقدم بطلب ترقيته حسب الأصول مستوفياً الشروط المعقولة أو التعجيزية،
وتجاوز طلبُه القسمَ والكليةَ بعد التدقيق التام، ورُفع مُعزَزاً بالموافقة على
السير في الإجراءات.
بعد حوالي سبعة أشهر جاءه قرار من مجلس العمداء بعدم الموافقة على
السير في إجراءات ترقيته لعدم اكتمال الشروط دون أدنى توضيح للشروط غير المكتملة.
ورغم أنه كان على يقين بأنّ
شروط طلبه مكتملة، إلّا أنّه خاطب رئيس جامعته بالكتاب رقم 1 راجياً توضيح هذه
الشروط ليستكملها.
انتظر حوالي شهرين فلم يأتِه ردّ، فطلب مقابلة نائب الرئيس المسؤول عن
الترقيات، وانتظر أسبوعاً فلم يحظَ بمقابلته، فرفع إليه الكتاب رقم 2 يرجو مقابلته
لاستيضاح النقص ليستكمله.
تمكن أخيراً من مقابلة نائب الرئيس، فأوضح له أنّ الشرط الوحيد غير
المكتمل في طلبه هو عدم اعتماد أحد أبحاثه لأنّه منشور في مجلة لا تعترف بها
الجامعة، فشعر بالأسى على ضياع حوالي تسعة أشهر من الانتظار ليظفر بهذا التوضيح،
وخنق عتابه كي لا يستعدي نائب الرئيس، بينما كان غضبه يغتلي في صدره، إذ كان
بالإمكان أن يُدقَّق طلبه منذ الأيام الأولى، ويتم إخباره بهذا ليتدبر أمره. وسأل:
لمَ لا تعترف جامعتنا بهذه المجلة؟ فأجاب نائب الرئيس: هذا رأي لجنة مكلّفة بالنظر
في المجلات للتأكد من مطابقتها للتعليمات.
عاد المدرس مجدَّداً إلى تعليمات جامعته منذ تأسيسها إلى الآن، ووجد
أن تلك المجلة تتطابق معها تماماً، وأكثر من ذلك فإن هذا البحث المنشور في هذه
المجلة هو بحث اعتمدته جامعته نفسها لسنة تفرّغه العلميّ، واعتمدته أيضاً لنقله من
فئة إلى فئة أعلى في رتبته الحالية، فالمجلة تصدر عن جامعة تعترف بها وزارة
التعليم العالي الأردنية، وهي متخصصة، ولها رمز معياريّ دوليّ، وهيئة تحريرها
عالميّة، وناشرو الأبحاث فيها من دول
متعددة، وهي تصدر منذ ثلاثين عاماً، ولها موقع على الشبكة يضمّ أعدادها جميعها على
مدى هذه العقود.
رفع المدرس الكتاب رقم 3، وأرفق فيه كل هذه التفاصيل موثَّقة بالحُجّة
والدليل، وظنّ أنّ الحقّ قد حصحص.
انتظر شهرين ولم يأتِه أيُّ رد، فرفع الكتاب رقم 4، يرجو معاملته
بالحدّ الأدنى من الاحترام، والرد على كتبه على الأقل.
انتظر شهراً آخر دون ورود ردّ كالعادة، فرفع الكتاب رقم 5 إلى رئيس الجامعة
هذه المرّة يوضّح له تفاصيل ما حصل خلال ما يقرُب من عام كامل، وأوضح أنّه لا يطلب
المستحيل: إمّا أنْ يتمّ إقناعه بمَ تتعارض المجلة مع تعليمات الجامعة، وإمّا أن
يتمّ تمكينه من حقه إنْ لم تكن تتعارض.
وأخيراً.... جاء الرد.... نعم، لقد جاء الرد:
لجنةٌ لتقصي الحقائق، ليس للنظر في معاناة هذا المدرس، لتحديد مَن تسبّب
بها، وأضاع وقته، وأثّر سلباً في كلّ أمور حياته. بل تريد اللجنة أن تتقصى حقائق
حول تهمة موجَّهة إلى هذا المدرس بأنه سرّب أسئلة الامتحان إلى طلابه!!!!!
مَن أثار هذا الاتهام؟؟ الطلاب؟ الأهالي؟ الزملاء المدرسون؟ تسجيلات
وفيديوهات سريّة خطيرة؟ ما الأمر؟
الأمر أنّه بعد التخطيط المحكم، والترصد الشديد، تمّ الاستماع إلى
محاضرة مسجَّلة لهذا المدرس، في مادّة مشتركة مع زميلين آخرين، كان قد تمّ الاتفاق
بين المدرسين الثلاثة على مرجع واحد لهذه المادّة، لتكون الأسئلة موحَّدة أيضاً،
وخُصّصت محاضرة قبل موعد الامتحان النصفي لمراجعة مادة هذا الكتاب، فراجع المدرس
هذه المادّة من هذا الكتاب، وشرح لطلابه – مجملاً - في هذه المحاضرة ما كان قد
شرحه لهم - مفصَّلاً – في محاضراته
السابقة، وكان يعلم أنّ هذه المحاضرة مسجَّلة، ومتاحٌ للمسؤولين أن يستمعوا إليها،
وختم المدرس محاضرة المراجعة هذه بتوصية طلابه أنْ يُحكّموا ضمائرهم دائماً، وأنْ
يعتمدوا على تحصيلهم، ويتجنبوا أيّة محاولة للحصول على علامة ليست من حقهم، فلا
قيمة لعلامة يُحصل عليها على حساب كريم الأخلاق.
وعندما تمت مقارنة ما شرحه المدرس وراجعه من مادّة الكتاب مع أسئلة
الامتحان وُجد
( ويا للهول!!) أنّ بعض
الأسئلة في ذلك الامتحان شرحها المدرس في تلك المراجعة!!!
وهذا التطابق لا يمكن أن يقع إلّا إذا كان المدرس متهَماً في خلقه،
مطعوناً في ذمته!!
إذ كيف يمكن أن تكون المادّة واحدة، والمرجع واحداً، وتحصل المراجعة
الواحدة للمادّة الواحدة في المرجع
الواحد، وتوضع أسئلة موحَّدة لتلك المادّة الواحدة، ثمّ يُكتشف أنّ بعض الأسئلة
شرحها المدرس في تلك المراجعة ؟؟!
غاب عن أذهان أعضاء هذه اللجنة الفطناء أنّ هذه المادّة مشتركة، وهذا
هو المرجع المعتمد، وهذا المدرس وضع ثُلُث هذه الأسئلة، ووضع زميلاه ثُلثين،
والأسئلة الموضوعة أضعاف أسئلة الامتحان المعروضة بالاختيار العشوائيّ، وللمادّة
منسق هو أحد هذين الزميلين، وهو المخوّل في الاختيار والتنسيق وعرض الأسئلة بشكلها
النهائي على موقع التعليم الإلكترونيّ دون أنْ يكون لهذا المدرس المتَّهم صلة بذلك،
وقد جاء معدَّل علامات طلابه مقارباً لمستوى علامات طلاب زميليه بحدود 65% فقط.
فكيف يعقل بعد كلّ هذا الحديث المجمل أنْ يَفترض عاقل وجود مؤامرة
خطيرة على الأمن القومي لامتحانات هذه المادّة؟!
يقول المدرس: أيّها المسؤول
الذكيّ العبقريّ العادل النزيه الموضوعيّ، أيّها الراعي المؤتمن على سمعة وحقوق
رعيَّتك، الحارس لأمانة مؤسستك، الحريص على قدسيّة مهنتك، يا مَن أقسمتَ على الوفاء
بأمانة مسؤوليتك،
أقول لك ما قالته العرب:( دون
ذا وينفق الحمار). قلْ لي جهاراً نهاراً
وعلى رؤوس الأشهاد إنك لا تريد ترقيتي، واخْتَرْ أيّة ذريعة تشاء، فأنا لا أتمتع
بذكائك، وسوف أصدّق أنّ العنزة طارت.
لكنْ- يا رعاك الله - إنْ كان لديك أنت العديد من رؤوس الأموال، فاترك
أخلاقي وشأنها؛ لأنها وحدها رأس مالي، والدفاع عنها آخر خطّ لي.