بقلم المقدم المتقاعد الدكتورة تغريد أبو سرحان*
أذكر أننا كنا نبلغ بموعد الانتخابات البرلمانية او البلدية قبل الحدث
بشهر على الأقل، حيث تمنع الاجازات بكافة أنواعها وتعلن حالة الطوارئ، ثم تبدأ
النقاشات والاستعدادات ورصد الذكريات، فهناك الأمهات وهناك المرضعات والزوجات
والقاطنات أميالا بعيدة عن مكان الوظيفة، قبل ليلة الانتخابات يتم تجميعنا من كافة
المحافظات والاولوية والقرى والبوادي والمخيمات ومن أي مكان نخدم او نسكن فيه بحيث
نجتمع من كافة الرتب في قيادة الشرطة النسائية في حي نزال – ضاحية الياسمين، وبحلول
غروب الشمس تكون قوائم توزيع الوظائف و التي أعدت قبل أسابيع جاهزة ، تتولى إحدى المدربات او وكيل القوة أو مساعد قائد
الشرطة وفي كثير من الأحيان قائد الشرطة النسائية ذاتها بجلالها وقدرها بقراءة
الأسماء والتأكد ان جميع عناصر الشرطة النسائية موجودات في القيادة، لا تتخلف عن
حضور هذا الحدث الا من كانت على فراش المرض او في حالة وضع لطفل او لا قدر الله
لديها حالة وفاة لشخص قريب من الدرجة الأولى او الثانية.
تنتهي مراسم التأكد من الحضور ونترك بحال سبيلنا داخل مرافق القيادة
المختلفة ويكون بعضنا أحضرت طعاما او حلوى للزميلات، بعضنا الاخر تكون قد أحضرت
شرابها المفضل والذي يتعذر وجوده في القيادة. أما البعض الاخر فتبحث في كانتين
قيادة الشرطة النسائية عن الموجود وتكتفي به بعد حمد الله.
لا ندري كيف كانت تمضي ليلة الانتخابات، ساعات من البهجة تمضي تلو
ساعات بين لعب وضحك ونكات أو مطاردة بعض الذكريات، فكثر منا شاركن ذات الدورة
التأسيسية او غيرها من الدورات التقدمية، وبوجود العدد الكبير لعناصر الشرطة
النسائية ندرك مسبقا ان النوم في هذه الليلة أشبه بالمستحيل، ليس فقط بسبب
الازدحام في كل مكان بحيث يتعذر النوم بكافة أشكاله سواء هادئ او عميق او حتى
متقطع، بالنسبة لي كنت أقرر مسبقا أن هذه الليلة ليست للنوم فهي بالنسبة لي تماما كما ليلة العيد، وكان
يتعذر نومي فعليا لأني كنت أدرك دوما ان هذه الذكريات ستكون بطعم الفستق ذات يوم،
لم أكن ارغب بالنوم حتى لا أفوت بهجة اللقاء بزميلات بعضهن لم نقابلهن منذ سنوات
بحكم خدمتهن في مناطق أخرى بعيدة.
يبدأ النصف الأول من الليل بجولات صاخبة للزميلات في كافة زوايا
ومرافق ساحات قيادة الشرطة النسائية ومعهد الشرطة النسائية وساحة تدريب المشاة
وقاعات الرياضة وصالات الطعام وأحيانا مناكفة بعضهن للطاهي أبو محمود ومساعدته، و
جولات في غرف سكن الشرطة النسائية ونادي معهد الشرطة النسائية أو صالون الشرطة
النسائية في السكن وفي المقسم والمطبخ في قلب المعهد القديم والساحة الخلفية و الامامية
للسكن والعهدة، وخلف المعهد حيث كانت تخلو الزميلات المدخنات بعيدا عن العيون التي
قد تشي بهن للقائد وبالتالي يتعرضن للعقاب بعد الانتخابات. وما أن ينتهي النصف
الأول من الليل حتى تبدأ الضحكات بالخفوت قليلا، وتبدأ الزميلات بجولة البحث بعضها
عن عشاء متأخر وبعضها الاخر عن قليل من النار لإيقادها تحت غلاية قهوة تركية، في
حين تبحث بعض الزميلات عن بطانية ومكان لاختلاس قليل من النوم بعد يوم نعرف جميعا
كم سيطول وكم هو شاق، هو يوم يمنع الجلوس فيه.
أما الثلث الأخير من الليل، فما أن يبدأ الليل بلملمة أشلائه منذرا بالرحيل
حتى ترى الزميلات يهجرن الساحات الخارجية ويلتجأن للصالات والقاعات الداخلية في كل
مكان في المعهد والقيادة، بعضهن يسرق ساعات قليلة من النوم، وبعضهن ينازعها التعب
والسهر وتستمر في ارتشاف المزيد من
البهجة، وبعضهن ما زالت تحمل بطانيتها على كتفها وتبحث عن سرير خال في السكن او
زاوية غير مشغولة في نادي معهد الشرطة النسائية، في حين ترى البعض وقد تقوقعت على
بعضها واخذت من احد كراسي الموريس الذي عاصر عشرات الدورات من المستجدات والتي
تتناثر في النادي متكئا لغفوتها، أما تلك المحظوظة جدا فهي تلك التي لها صديقة
تعمل أصلا في قيادة الشرطة النسائية او المعهد لأنها ستشاركها دفء غرفتها بفراشها
و بطانياتها وبالطبع كثيرا من الطعام والشراب وخاصة القهوة التركية والتي هي أصيص
الفرح في حياة الشرطية.
يبدأ الفجر بشق قلب الليل الذي ودعناه بحزن لتعجله
بالرحيل، بعضنا لا زالت دون نوم، بعضنا بنشاط لابأس به بعد اختلاس سويعات من الغفوة،
وبعضنا الاخر نادمة لارتشاف الفرح دون قليل من النوم، يبدأ الفجر بصوت وكيل القوة
والمدربات وأحيانا كثيرة قائد الشرطة النسائية يعلنن الاستعداد والجاهزية والتوجه
للباصات تلك المرابطة منذ الليلة السابقة أمام
البوابات الرئيسية لقيادة الشرطة النسائية والمعهد، دقائق قليلة و تكون جميع
الزميلات في الحافلات، أول الحافلات المتحركة هي تلك التي تقل الزميلات الى الجنوب
الحبيب، الكرك والطفيلة ومعان حيث ان ملتحقات العقبة يكنن في العقبة منذ اليوم
السابق، وعادة تحرك للعقبة الزميلات العاملات في العقبة و يرفدن بالزميلات من
الكرك، وما أن تصل عقارب الساعة الى الخامسة صباحا الا وتكون جميع الحافلات قد سارت
باتجاهاتها المتعددة بعضها لمدن الشمال وبعضها للبادية الشمالية والوسطى
والجنوبية، وأخرى تتجه الى المراكز داخل العاصمة الحبيبة عمان. وتدع القيادة
حبيباتها ويبدأ حرس الأبواب بإغلاق الأبواب وتبدأ العاملات بلملمة الفوضى التي
نثرها الفرح قبل الحدث بليلة في حين تبدأ القائد ومساعدتها باحتساء فنجان من
القهوة على أنغام نجاح الإنجاز الأولى في يوم الانتخابات، معلنة مقسم الشرطة
النسائية غرفة عمليات مستمرة لتلقي المكالمات على أسرع وجه سواء من مواقع الحدث او
من غرفة السيطرة في مديرية الامن العام لتلبية أي نداء لمستجدات يتطلبها الحدث.
عند الوصول لاماكن الاقتراع يتلقى الشرطيات ضابط الميدان المسؤول ويتم
تعريفهن على مسؤولياتهن وعلى المكان المخصص لهن للاستراحة بهدف الصلاة او تناول
وجباتهن، أما الوجبات فهي في الغالب ساندويشات فلافل لوجبة الإفطار ووجبات دجاج
مطبوخ بالرز لوجبة الغداء، الامن العام يوفر الوجبات لجميع أفراده ويرفض العسكريون
تناول الطعام على نفقة الاخرين وذلك من باب المهنية والحيادية وتجنبا لعبارة
"إطعم الثم تستحي العين". يطول
يوم الانتخابات ويكون غالبا متعب جدا خاصة أننا لم ننم في الليلة السابقة، وتظهر
علامات التعب على الجميع تحديدا بعد صلاة العصر حيث تقل الحركة على مراكز الاقتراع
وتبهت الساحات وتميل الشمس للمغيب. في كثير من المراكز يتم تمديد الاقتراع ساعتين
وهذا ما نستمر بالسؤال عنه، والصحيح اننا كنا نفرح كثيرا إذا لم يتم تمديد الاقتراع
لان هذا يعني مغادرة المكان مبكرا لتعويض ما فات من راحة ونوم او لقاء الأبناء
والاهل بعد يوم طويل وشاق بعيدا عنهم.
في مراكز الاقتراع تدور قصص جميلة وحكايات دافئة تمر أمامنا وتقصر من
يومنا و في أحيان كثيرة تضيف له لونا خاصا لا يمحوه إرهاق الحدث، قليلها يتعلق
بالاقتراع وكثير منها بعيد، بعض هذه الذكريات لزوجات يوجههن الزوج لاختيار مرشح
معين فتخرج هامسة بأذن الشرطية "بده اياني انتخب ابن عمه بس والله انتخبت
قرابتي"، بعضهن تبدي اعجابها بالزي العسكري، وكثير منهن يسألن كيف يمكن تجنيد
بناتهن او معارف لهن في الشرطة النسائية.
في الذاكرة صور وأصوات وأشخاص وأماكن عالقة منذ عشرات السنين، وظيفة
الانتخابات اللذيذة تأخذ العسكري في سياحة داخلية من شمال الوطن الى جنوبه ومن ضواحي
عاصمته المدللة الى رقع أريافه وقراه الشائخة ومخيماته "العودة" وحاراته
وأزقته اليافعة، فيرهن العسكري قلبه للعمر كله عاشقا لحبات ترابه. يوم الانتخابات
تجربة العسكري في الإبحار في الثقافات المختلفة داخل الوطن ولكن أيا اختلفت هي تبقى
انت العسكري الذي في بقاع الوطن كافة يكرموك كأنك في بيوتهم، يجلون الإرادة
العسكرية على كتفك بهيبة منقطعة النظير دون أن يضطروا لمعرفة ترتيب وامتيازات
الرتب، كل من يحمل الشعار يمثل الوطن وقائد الوطن وسمو الشعب، الشعب الجيش والجيش
الشعب.
*جامعة الامارات العربية المتحدة – العين