بقلم:
أ. د. وليد عبد الحي
تداولت
الأدبيات السياسية العربية في الفترات الأخيرة 2018-2020 دعوات لإعادة النظر في
خريطة العلاقات العربية الدولية استجابة للتحولات العميقة في بنية النظام الدولي
وتفاعلاته المركزية، وتكاد الدعوة "للاستدارة شرقاً" باتجاه القوى
الأسيوية هي الأكثر وضوحاً في هذه الأدبيات.
ولتوظيف
هذه الدعوة بشكل استراتيجي، لا بدّ من تحديد أسباب هذه الدعوة، ثم الاطلاع العميق
على الملامح المركزية للعقل السياسي الآسيوي، في الدول الآسيوية الكبرى خارج
الفضاء الإسلامي الآسيوي، لفهم مرجعية الصعود في المكانة الدولية للإقليم الممتد
من شرق آسيا الى غربها، ليقف على حواف البوابة الشرقية العربية، ثم التعرف على
القواسم المشتركة التي تتشكل منها المنظومة المعرفية السياسية لهذه القوى الآسيوية
الكبرى، من حيث رؤيتها للعلاقات الدولية المعاصرة، لكي يتلمس المخطط العربي طريقه
للعلاقة معها استناداً إلى قدر من فهم العقل السياسي لهذه القوى، ومعرفة الأسباب
التي تفسر آليات التطور المتسارع في العلاقات الآسيوية مع الكيان الصهيوني.
تقتضي
إدارة العلاقات الدولية مع طرف أو عدة أطراف في النظام الدولي؛ التعرف بداية على
المنظومة المعرفية والمرجعية الفكرية لهذه المنظومة من ناحية، وسُلَّم القيم
السياسية من ناحية ثانية، لتحديد القيم الرئيسية والقيم التابعة للدولة أو النظام
الإقليمي موضوع الدراسة. ولعل تجربة المستشرقين مع المجتمع العربي والإسلامي شاهد
على أهمية هذه المسألة في إدارة العلاقات بين طرفين.
أولاً:
مسوغات الاستدارة شرقاً:
يبدو
أن عدداً من العوامل التاريخية والمعاصرة والاستشرافية تقف وراء دعوة الاستدارة
شرقاً على النحو التالي: [1]
1.
جاذبية الصعود الآسيوي الحالي: ويتمثل ذلك في أحد مظاهره في أن إجمالي الناتج
المحلي مقاساً بمعادل القوة الشرائية GDP-purchasing Power Parity وليس الإجمالي الإسمي nominal لأربع دول آسيوية (هي الصين، والهند، واليابان، وروسيا [2]) هو
34.3% من إجمالي الناتج العالمي، وهي نسبة تعادل مجموع نسبة الولايات المتحدة
(18.2%) ونسبة جميع دول الاتحاد الأوروبي (16%).
2. إن
إجمالي الفائض التجاري للدول الآسيوية يجعلها تحتل المرتبة الأولى في العالم،
فالعجز التجاري الأمريكي مع الصين واليابان فقط يقارب 487 مليار دولار، بينما عجز
الميزان التجاري الأوروبي مع الصين وحدها يصل إلى 185 مليار يورو (نحو 221 مليار
دولار)، وتسيطر الصين على 13% من التجارة العالمية وهي تحتل المرتبة الأولى
عالمياً، بينما تحافظ اليابان على موقعها في السلم التجاري الدولي منذ 2012 وحتى
2020.
3. إن
في آسيا أكبر عدد من الدول النووية مقارنة ببقية القارات، ففيها 6 دول نووية هي
كوريا الشمالية، والصين، والهند، وباكستان، وروسيا، و"إسرائيل"، كما أن
فيها 41.13% من المفاعلات النووية العاملة في العالم (188 مفاعلاً من المجموع
العالمي البالغ 457).
4. إن
آسيا هي الأكبر بين قارات العالم في عدد السكان (59.54% من سكان العالم)، وفي
المساحة (21.7% من مجموع مساحة العالم).
5. إن
البنيات الثقافية والمجتمعية في هذه المجتمعات هي أقرب "نسبياً"
للمجتمعات العربية قياساً للمجتمعات الغربية، كما إن الوجود الإسلامي في عدد كبير
من المجتمعات الآسيوية يعزز هذا الجانب، إذ تشير البيانات السكانية إلى أن مسلمي
آسيا (من غير العرب) يشكلون 74.5% من مسلمي العالم، ويشكلون 28% من سكان آسيا
كلها.
6. إن
مراجعة التاريخ العربي من زاوية الصراعات الدولية يشير بشكل لا لُبس فيه إلى أن
الصورة الذهنية لدى العرب عن الآسيويين أقل عدائية من الصورة العربية تجاه الغرب،
وكما توصل هادلي كانتريل Hadley Cantril وفريقه البحثي من أن تكريس الصور الذهنية المتقابلة Mirror
Image للشعوب عن بعضها البعض هو نتيجة لطبيعة
العلاقة التاريخية بين الطرفين، [3] وهو ما يجعل تطوير العلاقة العربية مع آسيا
متحرراً أكثر من هواجس السيطرة الاستعمارية الرأسمالية، والنظرة الاستعلائية
الغربية التي تختزنها الذاكرة التاريخية العربية، مما يوجد بيئة مواتية لمهمة
الديبلوماسي العربي لغذّ الخطى في الاستدارة شرقاً.
7.
تمثل آسيا الشريك التجاري الأول للمنطقة العربية وبنسبة متزايدة، إذ تشكل التجارة
العربية مع آسيا 55% من إجمالي التجارة العربية بزيادة 15% عن قيمتها سنة 1999،
[4] وتصل قيمة الاستثمارات الصينية وحدها في الدول العربية إلى نحو 150 مليار
دولار حتى بداية سنة 2020، ويتركز معظمه في السعودية، والجزائر، ومصر، والإمارات،
والعراق، [5] ناهيك عن أن مبادرة الحزام والطريق الصينية BRI تضم 12 دولة عربية، كما أن منتدى التعاون الصيني العربي China–Arab
States Cooperation Forum يشكل إطاراً تنظيمياً للعلاقات العربية
الصينية.
ثانياً:
مستوى الوعي العربي بالإطار النظري المرجعي الآسيوي:
في
ظلّ هذه المؤشرات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، يبرز تساؤل حول مدى
معرفة العرب بآسيا بشكل عام، وبالدول المركزية في هذه القارة خصوصاً الصين وروسيا
والهند واليابان بشكل خاص، من جانب المنظومتين المعرفية والقيمية وعلى أسس علمية؟
وهنا نطرح الإشكالية التالية: هل يتم هذا التطور الآسيوي المتسارع دون إطار فكري
ينظمه ويرشده؟ وهل القرار السياسي في هذه القوى الآسيوية الصاعدة يتم بمعزل عن
الاجتهادات الفكرية الآسيوية قديمها وحديثها؟ وما هي هذه الاجتهادات؟ وكيف تنظر
للعالم؟ وكيف تُفلسف الحياة السياسية؟ ما هي حلولها؟ ما هي قيمها العليا؟
للإجابة
عن الأسئلة السابقة لا بدّ من معرفة متعمقة ومتخصصة في هذا الشأن، لكن ملاحظاتي
على الخطط الدراسية في أقسام العلوم السياسية في جامعاتنا العربية، وعلى إصدارات
مراكز أبحاثنا العربية بشكل خاص والفكر السياسي العربي المعاصر بشكل عام هو هذا
الإصرار، طوعاً أو كُرهاً، على البقاء في قفص النظريات الغربية في أدبياتنا
السياسية، ومع تصاعد دور القوى الآسيوية خصوصاً الصين واليابان والهند وروسيا،
أصبح من الضروري التعرف على التوجهات الفكرية السياسية لهذه القوى، لكي يتم إدراك
توجهاتها المستقبلية تجاه قضايا الوطن العربي بشكل خاص والعالم بشكل عام. ولما كان
أحد اتجاهات العلاقات الدولية المعاصرة ذلك الذي يتبنى فكرة أن القرن الحادي
والعشرين هو "القرن الآسيوي"، [6] فإن من الضروري تنبه الباحثين العرب
لجانبين هما:
1.
الإطار النظري لمفكري آسيا خصوصاً الصين واليابان والهند وروسيا، وهو ما سنوليه
العناية في هذه الدراسة.
2.
البعد التطبيقي، أي دراسة سلوك هذه الدول خصوصاً تجاه المنطقة العربية في ضوء
الأدبيات السياسية الآسيوية، وهو ما سنعمل على دراسته لاحقاً.
ثالثاً:
تيار الدعوة للاستدارة شرقاً في "إسرائيل":
تشير
دراسة لمركز استروم للدراسات اليهودية Stroum Center for
Jewish Studies في جامعة واشنطن، إلى التنامي المتسارع في
العلاقات الإسرائيلية الآسيوية مع شمال آسيا (اليابان، وكوريا الجنوبية، والصين)،
وجنوب آسيا (الهند، وفييتنام، وسنغافورة)، وتحدد الدراسة أسباب التوجه الإسرائيلي
نحو الشرق إلى العوامل التالية: [7]
1.
ديبلوماسية "الدولة الحامية العسكرية Garrison State
Diplomacy"، وهي الديبلوماسية التي وصفها الباحث
جاكوب أبادي Jacob Abadi،
وتعني الدولة التي تقع في إقليم سياسي معادٍ لها كـ"إسرائيل"، فتنهمك في
البحث عن فضاء خارج هذه البيئة لتعزيز الاعتراف بها، وفك عزلتها الإقليمية، إلى
جانب استثمار القوى الصاعدة في النظام الدولي، وهي قوى آسيوية في هذه المرحلة.
2.
تحسين صورة اليهودي في الذهن الآسيوي، وقد أشرنا في دراسة سابقة إلى صورة اليهودي
بشكل عام و"إسرائيل" بشكل خاص في الذهن الياباني، وهذه الصورة لها
جذورها التي تسعى "إسرائيل" لاقتلاعها. [8]
3.
الدوافع الاقتصادية؛ لما كانت 3 من أكبر 7 اقتصاديات في العالم موجودة في آسيا،
ولما كانت الصين هي الشريك التجاري الثاني لـ"إسرائيل" بعد الولايات
المتحدة بحجم 15 مليار دولار، ولما كانت الصين تواجه تضييقاً أمريكياً عليها
خصوصاً في جانب التكنولوجيا الحديثة، فإن "إسرائيل" بحاجة لاستثمار هذه
الجوانب كلها، ناهيك عن الشراكة الإسرائيلية في مبادرة الحزام والطريق، والتي سبق
أن تناولناها في دراسة سابقة. [9] وإذا أضفنا لذلك أن "إسرائيل" تحتل
المرتبة الثانية في مبيعات السلاح للصين والهند، وأنها انضمت سنة 2016 إلى بنك
البنية التحتية والاستثمار الصيني (الآسيوي) The
Asian Infrastructure Investment Bank (AIIB) إلى
جانب السعي للانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون Shanghai
Cooperation Organisation، فإن ذلك كله يغوي "إسرائيل"
للتخطيط لتكون جسراً بين الشرق والغرب بكل ما يترتب على ذلك من مكاسب لها ستوظفها
في صراعها مع الجوار.
4. إن
مقارنة ردود الفعل الغربية تجاه العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة مع ردود
الفعل الآسيوية، تشير بشكل واضح إلى تراجع الاهتمام الآسيوي تجاه السياسات
الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تكريس وعناية من خلال
الدراسات والبحوث الإسرائيلية التي تُرَشّد صانع القرار الإسرائيلي في هذا
الاتجاه، وهنا يأتي التساؤل الاستراتيجي: لماذا أصبح الرأي العام الأوروبي أكثر
اهتماماً بالموضوع الفلسطيني، بينما فتر الاهتمام الآسيوي غير الإسلامي به؟ وهذا ما
تسعى "إسرائيل" لتكريسه.
رابعاً:
الاستدارة شرقاً وأولوية إدراك المنظور الآسيوي للعلاقات الدولية:
معلوم
أن تطور النظرية السياسية المعنية بالديناميات الداخلية للتنظيم السلطوي أسبق من
تطور النظرية في العلاقات الدولية المعنية بالديناميات الخارجية، وإذا كانت محاولات
التنظير للعلاقات الدولية قد بدأت كتخصص أكاديمي في سنة 1919، فإن محركات العولمة
وتماهي الحدود ما بين الداخل والخارج "سارع" في تطور نظريات العلاقات
الدولية، ولأسباب كثيرة تاريخية واقتصادية واجتماعية سيطرت النظرية الغربية،
وأصبحت نظرية العلاقات الدولية كما تقول كريستين سيلفستر Christine
Sylvester نظرية غربية ذكورية بيضاء، وهو ما يستكمل
سؤال مارتن وايت Martin White؛
لماذا لا توجد نظرية علاقات دولية غير غربية؟ [10]
إن
دراسة المنظور الفكري الآسيوي، غير الاسلامي، المعاصر للعلاقات الدولية أمر
استراتيجي لفهم كيفية التفاعل مع هذه الكتلة الدولية الكبرى، ودون إدراك لهذا
الأمر تصبح إمكانية بناء أساس متين للاستدارة شرقاً أمراً غير مُجدٍ، فالنظر إلى
الصعود الآسيوي من خلال المنظومة القيمية والمعرفية الغربية يبقى قاصراً، فلا بدّ
من رؤية الحركة الآسيوية استناداً لخصوصية المنظومة المعرفية والقيمية الآسيوية،
وهو ما تسعى هذه الدراسة لإنجازه، على النحو التالي:
1.
جينيولوجي المنظور الآسيوي للعلاقات الدولية: [11]
في
تأصيل النظريات في العلاقات الدولية الآسيوية يمكن تحديد خمسة مناهج فكرية كبرى
حددت الإطار الذي يتم النظر فيه للمشكلات السياسية خصوصاً الداخلية، نظراً لأن
المنظور الدولي بمعناه المعاصر لم يكن قد تبلور بالقدر الكافي، لكن هذه المناهج
تركت بصماتها على تطور المنظور الآسيوي للعلاقات الدولية لاحقاً، مما يستدعي
العودة لهذه المناهج لفهم الإطار المعرفي الآسيوي الذي نعايشه هذه الأيام. [12]
الإطار
النظري الأول: الطاوية DAOISM:
لاوتسي Lao Tzu:
أكد هذا الإطار على الدور الذي يجب أن تلعبه الطبيعة في أي نظرية سياسية فعالة.
وتقوم هذه الفلسفة على نقد السعي لثنائية الثروة والسلطة، مع محاولة تقديم منظور
معياري يستهدف تقديم علاج لتخفيف هذه الرغبات التي تصفها الطاوية بأنها "غير
طبيعية".
الجانب
الثاني في هذه المدرسة، أنها تجعل من "التربية الذاتية" أداة تنوير
الفكر السياسي، وهذه التربية تتم من خلال التحرر من النزعات الذاتية.
الإطار
النظري الثاني: هو ما يسمى القانوني أو الشرعي legalism، والذي جسدته آراء شانغ يانغ Shang
Yang. وأتباع هذا التوجه لم يعتمدوا في نظرياتهم
السياسية على أساس معياري، بل على العالم كما هو، وعليه سعوا لتقديم تصور لكيفية
إنشاء دول قوية ومستقرة دون الحاجة لثقافة واسعة من الجماهير على غرار النظرية
السياسية الكونفوشيوسية (والطاوية). علاوة على ذلك، فقد طوروا ودافعوا ليس فقط عن
نظام قانوني واسع النطاق، ولكن أيضاً عن بيروقراطية شديدة التعقيد، مدركين أن نجاح
أي نموذج سياسي لا يعتمد على حاكم واحد، بل على نظام مستقر يمكن تنفيذه بغض النظر
عن المسؤول.
الإطار
النظري الثالث: الموهيّة Mohism:
وتفرع عنها المناطقة The Logicians،
التي اعتنت بموضوع دلالات المفاهيم مثل الوجود أو الزمان أو المكان…إلخ، مما جعل
البعض يسميها مدرسة الأسماء. وهي النظرية التي أسس لها موزي muzi في القرن الخامس ق.م، وتدعو إلى ضرورة التقوى الفردية والخضوع
لإرادة السماء، أو شانغدي (الإله الأعلى) Shangdi، واستنكر التأكيد الكونفوشي على الطقوس والاحتفالات باعتبارها
مضيعة للأموال الحكومية.
يقوم
هذا المنظور على ما يسمونه عواقبية الدولة State sequentialism، أي أن الوصول لحكومة نزيهة يستوجب أولاً توفير الضرورات المادية
والمعنوية للمجتمع من خلال تطوير التعليم والمعرفة ولكن لكل فرد، على عكس المثالية
الأخلاقية الكونفوشيوسية المتمثلة في الران Ren ("الإنسانية" أو "الإحسان")، وميزت هذه
المدرسة بين الحب الخاص للآباء والأمهات والأسرة، وبين الحب العام الذي يظهر نحو
الآخرين. فقد أيد الموهيّون ممارسة الحب دون تمييز Jianai. وهاجموا الكونفوشية، وخصوصاً منشيوس Mencius في توجهاته نحو مفهوم الحب التمييزي، وتحدوا أساس الوئام الأسري
الكونفوشي، والذي كان في الواقع الأساس للتناغم الاجتماعي للدولة الكونفوشية.
ولكن
هناك مدارس أخرى مثل يانغ زو Yangism التي ركزت على أهمية
المصلحة الفردية، وهناك "الزراعيون" The
Agrarians الذين ركزوا على قيم المساواة.
الإطار
النظري الرابع: إلى جانب هذه النظرة هناك المنظور الشنتوي الياباني؛ وهي أفكار لا
مؤلف واضح لها، ولا تؤمن بالمطلق، وترى أن الإنسان كائن جيد، وما يرتكبه من أخطاء
ليست إلا نتيجة لدخول الأرواح الشريرة. ويعزز المنظور الشنتوي تبني فكرة الأصول
الإلهية للأباطرة.
الإطار
النظري الخامس: الإطار الهندوسي: معلوم أن نحو 82% من سكان الهند هم من الهندوس،
وهنا نجد مستويين من الهندوسية: التقاليد العظمي والتقاليد الدنيا Great
Tradition and the Little Tradition. الأولى تعكس ثقافة 20% ويمثلون الطبقة
العليا (البراهمية الهندوسية أو السنسكريتية)، وهؤلاء ينقسمون لتيارين أحدهما أقل
انجذاباً للثقافة الغربية ولديهم شكوك قوية في الأقليات الأخرى (خصوصاً من
المسلمين)، ويمثلون جذور التيار القومي الهندي، وهم من يعملون على توحيد التيارات
الهندوسية ويصرون على نبذ المسلمين وغيرهم، ومنهم ظهر الحزب الحاكم الحالي
بهاراتيا جاناتا Bharatiya Janata،
والتيار الثاني هو التيار الأقرب للثقافة الغربية وتقبل الأقليات الأخرى، لكن
التيار الأول هو الأقوى. أما المستوى الثاني فهو للطبقة السفلى (غير البراهمية أو
السنسكريتية) وهي التي تضم الطبقات الفقيرة. لكن السمة الأكثر وضوحاُ في كلا
المستويين أنهما أقل نزوعاً "إنسانياً" من الكونفوشية والطاوية، كما أن
ضعف التيار البوذي (فعدد البوذيين في الهند أقل من 9 ملايين نسمة بين نحو 1,350
مليون) لا يغير من هذه الصورة كثيراً.
2.
تطور الفكر السياسي الآسيوي: [13]
المرحلة
الأولى: عرف الفكر السياسي الآسيوي تداخلاً كبيراً بين الإرث الديني والإرث
السياسي خصوصاً في فترة ما قبل الاحتكاك بالغرب. واتسمت الثقافة في تلك الفترة
بطغيان البعد الميتافيزيقي في الهندوسية في الهند، وشكلت البوذية ما يمكن اعتباره
نزعة بروتستانتينية في الهندوسية. ثم جاء التأثير الإسلامي الذي يمكن اعتبار
بدايته مع إرسال الخليفة عثمان بن عفان أول "سفير" للدولة الإسلامية إلى
الصين الكنفوشية، حيث سادت ثنائية الين واليانغ Yin
and yang والتي تعبر عن الجدلية في الوجود (من خلال
التضاد بين مكوناته) وتكريس البنية الهيراركية للمجتمع، إلى جانب إسهامات أسرة
منشو Manchu بإضفاء الصفة المقدسة على الإمبراطور بربطه
بالسماء. وهنا لا بدّ من ملاحظة أن النزعة العلمانية في التراث الصيني أعمق منها
في التراث الهندي، فكنفوشيوس لم يكن معنياً بالسماء، والملاحظ أن الطبقات العليا
هي التي كانت أكثر اهتماماً بربط الحاكم بالله.
أما
في اليابان، فقد اعتبر أفراد طبقة ياماتو Yamato الشنتوية أنفسهم آلهة، واستعاروا البعد التنظيمي لمجتمعهم من
الكونفوشية والبوذية. ورأى هؤلاء أن الجانب السلمي (من ثقافة العراك الحياتي)
خصوصاً، تركت للنساء في بعض المراحل بينما علا شأن الساموراي Samurai وبعدهم الشوجان Shogun
(الذين يمثلون النزعة العسكرتارية) في مراحل معينة، وترك ذلك أثراً لاحقاً، كما
سنرى، في الفكر السياسي الياباني.
المرحلة
الثانية: أما في فترة الخضوع للاستعمار الغربي وبداية نشوء الحس القومي للآسيويين،
فقد كان هذا أكثر وضوحاً في الهند خصوصاً مع سيطرة اللغة الإنجليزية، فالأديب
الهندي طاغور Rabindranath Tagore نال
جائزة نوبل عن رواياته بالإنجليزية، كما أن تحليل روايته "البيت
والعالم" تميل نحو المثاقفة مع المجتمعات الخارجية. [14] بل لعبت الإرساليات
التبشيرية دوراً في تكريس ثقافة تحاول مزج الإنجيل بالتراث الهندوسي مثل براهمو
سمج Brahmo Samaj، والتي أنشاها كشاب تشندر سان Keshab
Chunder Sen (في القرن التاسع عشر)، وواجهت حركته
انشقاقات لكنها تركت أثراً في تعميق المنظور العقلاني في الثقافة الهندية.
وعند
الانتقال إلى الصين، فعلى الرغم من تناوب التيارات المختلفة في منظورها الثقافي،
لكن العودة باستمرار للمنظور الكونفوشي أمر واضح. أما في اليابان، فقد كان التأثير
الأكبر في لجم التأثير الغربي لما يسمى بفترة العزلة الأولى التي امتدت 200 عام مع
حكم الشوجان، والتي تمّ خلالها منع الخروج والدخول لليابان، ومنع التجارة
الخارجية، وطرد البعثات التبشيرية (أحياناً بالعنف)، وبقي الأمر على هذا الحال حتى
فترة الإمبراطور ميجي Meiji
الذي جعل النموذج السياسي والتنموي والصناعي الغربي هو المقياس المحتذى للتطور حتى
1912. وبعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، عرفت اليابان ما يسمى بالعزلة الثانية،
من خلال الانكفاء على الذات وترميم ما هدمته الحرب والتخلص من آثار الهزيمة.
ومن
الضروري التوضيح بعد عرض مراحل ما قبل وبعد الاحتكاك مع الغرب، أن نبين أن هذا
التراث الآسيوي ومن خلال تفاعله مع الغرب، انتهى إلى أن "آسيا" كمفهوم
جيوسياسي ثقافي تراوح بين منظورات ثلاثة: [15]
1.
فكرة أن آسيا كمفهوم سياسي لا معنى لها دون أوروبا: ويتضح هذا المنظور في الأدبيات
الآسيوية التي ترى أن آسيا مفهوم جيوثقافي يجب التخلي عنه والارتباط بأوروبا، وهو
ما اتضح في مناقشات المفكر الياباني فوكو زاوا Fukuzawa لمقولة "طرح آسيا theory of shedding
Asia" التي راجت سنة 1885.
2.
فكرة آسيا ذات مضمون سوسيولوجي يقوم على الفلاحة والقومية، وهو ما تجلى في سيادة
الناروديين Narodism
كتعبير عن الآيديولوجية التي تدافع عن الفلاحين وتدعو لتوزيع أملاك الإقطاعيين
عليهم أو ما سمي تطبيق الاشتراكية الريفية في روسيا (1861)، وبموازاة محاولة
الرئيس الصيني صن يات صن Sun Yat-sen في الصين لبناء دولة قومية من 1913-1925.
3.
مفهوم آسيا (الإقليم الجيوسياسي) بين المنظور القائم على الرؤية "الآسيوية
الكبرى Great Asianism"
الذي طرحه الثوريون الصينيون، وبين الرؤية اليابانية حول "شرق آسيا East
Asia أو (TOYO)"، والتعامل مع شرق آسيا استناداً إلى نظرية "الإقليمية
الجديدة New Regionalism"،
أي التحرر من الارتباط الآسيوي الواسع والعمل على أساس لا مركزية آسيوية، مع تعميق
الترابط بين الوحدات دون الاقتصار على الروابط الاقتصادية والأمنية فقط على غرار
الإقليمية التقليدية. [16]
المرحلة
الثالثة: مراحل الاستقلال (منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية)؛ وهنا نحن أمام
توجهين: الأول يتضح في التأثير الغربي واستمراره، وهو ما يعكسه في الهند تأثر الرئيس
الهندي الأسبق جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru بالحركة الفابية ذات النزوع الإشتراكي، وتأثر غاندي Mahatma
Gandhi بالديموقراطية الغربية، وتأثير الماركسية
على ماوتسي تونغ Mao Tse-tung،
والتغير الجذري للنظام السياسي الياباني بفعل الدستور الذي فرض على اليابان بعد
الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. أما الثاني فتمثل في "أصولية
آسيوية" أي التشبث بالمنظور التاريخي الآسيوي مع العمل على تكييفه مع متطلبات
العصر الحالي.
3.
التنظير الآسيوي للعلاقات الدولية في الفترة الحديثة:
وتتضح
الجهود الآسيوية في هذا الجانب في الآتي: [17]
أ.
إسهامات نيشيدا كيتارو Nishida Kitarō
(1870-1945): وهو الأكثر تأثيراً في التنظير الحديث للعلاقات الدولية في المدرسة
اليابانية من زوايا دور الدين، والثقافة، والتطرف، والأخلاق، والقومية، في
العلاقات الدولية وفي سلوك نظم الحكم. ويمكن اعتباره الفيلسوف السياسي الأكثر
أهمية في اليابان في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ويضعه الباحثون الغربيون
ضمن مؤسسي المنظور البنائي Constructivism في نظريات العلاقات الدولية المعاصرة.
ب.
أكاماتسو كانيمي Akamatsu Kaname
(اليابان) (1896-1974): برز دوره في تقسيم العمل في النظم الإقليمية من خلال
نظريته "نموذج الأوز الطائر Flying Geese Paradigm"، التي نشرها في سنة 1960 وأخذت صدى واسعاً، ويركز فيها على
دور القائد في إعادة هيكلة الإنتاج نظراً للتباين بين الاقتصاديات العالمية، ويرتب
مراحل التطور الإقليمي السياسي والاقتصادي استناداً لمؤشرات التحول في قواعد
الإنتاج الاقتصادي. وهو معتمد في جانب من نظريته على نظرية كوندراتيف Kondratiev، التي سنشير لها بعد قليل. لقد قسم كانيمي سرب الأوز إلى 4
مستويات استناداً لتراتبية إقليمية تحددها مستويات التطور الصناعي، وتظهر في
انتقال السلع المصنعة من الأكثر تطوراً للأقل على النحو التالي: الأوزة القائد
(اليابان)، والاقتصاديات الصناعية الجديدة: كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتايوان،
وهونغ كونغ، ودول الآسيان: تايلند، وماليزيا، وإندونيسيا، والمجموعة الرابعة الأقل
تطوراً؛ الصين، وفييتنام، والفلبين…إلخ)، وتقوم النظرية على:
•
تزايد تكلفة العمالة ستدفع الدولة الرائدة (اليابان) إلى إعادة هيكلة الإنتاج
لديها.
•
بسبب المزايا النسبية (على المستوى العالمي) فإنها تتحول تدريجياً من إنتاج
العمالة المكثفة إلى إنتاج رأس المال المكثف، من خلال الانتقال إلى الدول الأقل
تطوراً التي تبدأ بدورها تتطور نتيجة لذلك. ولعل مثال صناعة الأقمشة التي تركتها
اليابان إلى دول آسيوية أخرى، وهي بدورها تركتها لاحقاً، مثل كوريا وتايوان،
وتحولت نحو صناعة السيارات والإلكترونيات…إلخ.
•
تبدأ الدول في الحزام الثاني (وراء القائد) بتصدير مواد خام، ثم ينتقل لتصنيع
أولي، ثم ينتقل للتصدير مستفيداً من المزايا النسبية.
ج.
شيراتوري كوراكيتشي Shiratori Kurakichi
(1865–1942): يعد كوراكيتشي مؤرخاً وعالماً يابانياً ومن أبرز رواد مجال
"التاريخ الشرقي Oriental History".
وهو سوسيولوجي ركز على ما أسماه "التاريخ الشرقي"، حيث سعى لإثبات أن
الحضارة الصينية، الإمبراطور الأصفر، هي الأكثر تأثراً وامتداداً للحضارة البابلية
وحضارة ما بين النهرين، وهو ما يمثل استمرارا لنظرية لاكوبرييه Lacouperie الفرنسي، وهو يحاول أن يعزز فكرة آسيا التاريخية رداً على نظرية
فوكو زاوا (التي أشرت لها سابقاً).
د.
التنظير الآسيوي في نطاق الدراسات المستقبلية: أغلب نظريات ما بعد الحداثة وما بعد
المنهج الوضعي تركز على التنبؤ من ناحيتين هما: مستقبل نظريات العلاقات الدولية،
ونظريات الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، وتقوم على فرضية مركزية هي إذا
كنت تعرف قوانين الظاهرة فقل لي أين تتجه؟ وهنا نجد الإسهامات الآسيوية التالية:
•
نظرية دورة الموجة الطويلة long wave cycle لنيكولاي كوندراتييف Nikolai Kondratiev، والتي تنبأ فيها بانهيار الشيوعية وبقاء الرأسمالية (1928). وقد
عاد الكثير من الجامعات الغربية للاهتمام بهذه النظرية بعد انهيار الاتحاد
السوفييتي. [18]
•
المنشق السوفييتي اندريه أمالريك Andrei Amalrik في دراسته Will the Soviet Union Survive
Until 1984 الذي كتبه سنة 1970، وتنبأ فيها بانهيار
الاتحاد السوفييتي سنة 1984، علماً أن غورباتشوف Mikhail
Gorbachev تولى السلطة سنة 1985، وبدأ مسلسل الانهيار.
[19]
4.
النظريات الآسيوية المعاصرة:
ترتبط
هذه النظريات بالتحولات في البنية الداخلية لهذه الدول الآسيوية على النحو التالي:
أ.
نظريات النزعة البراجماتية على حساب المنظور الأيديولوجي: مثال الصين: [20]
حتى
التسعينيات من القرن العشرين، دارت المناقشات في الأدبيات السياسية الصينية حول
طبيعة النظام الدولي، وتركزت هذه المناقشات على الأسئلة التي طرحها كين QIN سنة 1978 والمتمثلة في:
• هل
ننظر للنظام الدولي من زاوية الحرب والصراع أم من زاوية السلام والتنمية؟
• هل
تحقق الصين أهدافها من خلال الاندماج في النظام الدولي أم بالتنافس والقوة؟
وسعت
النظرية الصينية إلى تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية تمت الإشارة لها في نظرية
الصعود السلمي، والتي تحولت إلى نظرية التنمية السلمية، والتي صاغ أسسها المفكر
الصيني تشينغ بيجيان Zheng Bijian على
النحو التالي:
•
صياغة نظام دولي طبقاً لمنظور يقوم على التعددية.
•
التحول من دولة تريد تغيير النظام الدولي القائم، كما كان الحال في فترة ماوتسي
تونغ، إلى دولة تسعى للاندماج في النظام القائم.
•
دولة تريد مكانة خاصة في النظام الدولي تليق بصعودها.
وقد
استندت هذه التوجهات استناداً لمنظور فكري حددته نظريتان سادت الفكر الصيني
المعاصر بعد موت ماوتسي تونغ، وهي: [21]
•
نظرية عصفور القفص التي طرحها تشين يون Chen Yun، والتي تقوم على فكرة عدم التخلي عن الاشتراكية مع توظيف بعض
ميكانيزمات الرأسمالية، أي أن تبقى الصين في "قفص الاشتراكية" مع ضرورة
توسيع مساحة القفص.
•
نظرية لون القط التي صاغ فكرتها لوي جيوي Lou Jiwei، وهي التعبير عن النزعة البراجماتية في التوجهات الصينية لفترة ما
بعد ماوتسي تونغ، فليس مهماً لون القط، المهم أن يصطاد الفئران، أي أن المهم هو
النتائج الاقتصادية والسياسية بغض النظر عن "اللون العقائدي".
وترافق
مع هاتين النظريتين توجهات فكرية ذات نزوع قومي مثل:
•
الشروع في إحياء التراث الصيني منذ عهد هسيا Xia
(Hsia) (2200 ق.م)، والعمل على بناء أكثر من مئة
مركز وطني لإنجاز هذه المهمة.
•
تغيير في المناهج التي تعكس مؤشرات ذات دلالة؛ مثل: استبدال تفسير بناء السور من
صدّ الغزاة، إلى تعبير عن النزوع للوحدة الوطنية، وأن الأبراج هي لتسهيل التواصل
بين الجماعات الصينية المختلفة.
ب.
نظريات استمرار النزعة الميركانتيلية: اليابان: [22]
ساد
بعد الحرب العالمية الثانية سؤالان مهمان حددا مسار التفكير السياسي الياباني في
العلاقات الدولية والداخلية وهما: لماذا هزمت اليابان؟ والسؤال الثاني كيف تضمن
اليابان مصالحها في نظام دولي شديد الاستقطاب؟
كانت
الإجابة هي التحول نحو موضوعات مثل: التجارة الدولية، والاقتصاد السياسي الدولي،
والاعتماد الدولي المتبادل، والمؤسسات الدولية…إلخ، وهنا ثارت المناقشات حول:
• هل
المثالية اليابانية مسؤولة عن الهزيمة اليابانية أم أن المسؤولية تقع على عاتق
النزعة العسكرتارية التي سيطرت على اليابان حينها؟
• هل
حماية المصالح اليابانية يتم من خلال التحالف مع الولايات المتحدة أم بالثقة في
المؤسسات الدولية؟
• هل
المستقبل للاعتماد المتبادل أم لسياسات القوة؟
• هل
السياسة الميركنتيلية وبقدر من البراجماتية توصل اليابان للمكانة التي تسعى لها؟
ج.
نظريات العودة للأصولية الدينية: الهند: [23]
تشكل
التنظير للعلاقات الدولية الهندية استناداً لعدد من المحددات:
•
تقييم دور الهند من الاستقلال إلى مطلع السبعينيات (خصوصاً فترة تنامي منظور عدم
الانحياز).
•
هيمنة المخاطر الإقليمية الصينية والباكستانية عززت سيطرة المنظور الأمني في
التفكير الهندي؟
• نقد
المنظور الغربي من خلال بعض الأدبيات الهندية خصوصاً دراسات أشيس ناندي Nandy
Ashis هو الذي أتاح الفرصة لحزب جاناتا الهندوسي
للظهور بمنظور قومي؟
النماذج
الآسيوية في التنظير المعاصر:
يسهم
الآسيويون بشكل خاص في هذا المجال، بل ولهم طروحات مهمة، وفي كثير من الأحيان
تتناقض مع المضمون الجوهري للنظريات الغربية: [24]
1.
نظرية ياكنغ كين Yaqing Qin؛
يعد كين الذي يعمل أستاذاً بجامعة الشؤون الخارجية الصينية، من أبرز نقاد النظريات
الغربية في العلاقات الدولية المعاصرة. ويركز في نظريته على دور الأبعاد الثقافية
خصوصاً الصور التي يختزنها المتفاعلون عن بعضهم البعض في تشكيل طبيعة العلاقات
الدولية.
2.
نظرية الصعود السلمي Peaceful Rise
التي وضع أسسها تشينغ بيجيان Zheng Bijian، والتي دعمها بنظرية تقارب المصالح العالميThe
Global Convergence of Interests ، وقد تمّ تصنيف بيجيان في المرتبة 44 بين
أهم مئة مفكر في العالم في الوقت الحالي. وتقوم النظرية على تحليل العلاقة بين
"القوة الناعمة والسلام الدولي" من خلال التقارب في المصالح العالمية
وليس من خلال النظريات التقليدية كتوازن القوى أو الردع…إلخ.
3.
أما في روسيا التي أشرنا في بداية هذه الدراسة (الهامش 2 من هذه الدراسة) إلى أن
لينين Lenin كان يعد روسيا دولة آسيوية، ولم نتوقف عند
أدبيات الاتحاد السوفييتي أو ما قبله لأنها معروفة للباحثين العرب، لكن المنظرين
الروس المعاصرين مثل الكسندر دوغين Aleksandr Dugin، الذي يصفه الغربيون بأنه المفكر الأكثر تأثيراً على بوتين Putin، يستحق عناية أكبر من الباحثين وصناع القرار العرب، وتتمثل
إسهاماته في نظرياته مثل: [25]
أ.
النظرية السياسية الرابعة (2009) The Fourth Political Theory؛ وهي نظرية يحاول فيها دمج وتجاوز النظريات الماركسية (وحدة
التحليل الطبقة)، أو الليبرالية (التي تجعل الفرد وحدة التحليل)، والفاشية (التي
تجعل الدولة هي الأساس)، ويركز هنا على بديل المجتمع المدني الذي يتجاوز الانتماء
الطبقي والقومي وفرديته بسبب العولمة، ويقترح تصورات بهذا الخصوص.
ب.
النظرية الأوراسية (1997) The Foundations of
Geopolitics: The Geopolitical Future of Russia؛
وتركيزه فيها على الدور الروسي في بناء تحالفات حول روسيا مثل إيران والدول
الإسلامية، والعمل على توظيف البترول والغاز في تكييف السياسات الأوروبية، وصولاً
إلى جنوب ووسط أمريكا اللاتينية.
4.
كينيش أوماي Kenichi Ohmae؛
[26] يمكن القول بأن نظرية نهاية الدولة القومية (العولمة)، تمثل النظرية التي
كانت الأكثر تاثيراً في أغلب منظري العولمة بدءاً من أنتوني جيدنز Anthony
Giddens، ورولاند روبيرتسون Roland
Robertson، وصولاً إلى توماس فريدمان Thomas
Friedman. وتشكل نظرية "نهاية الدولة
القومية" وتآكل مفهوم السيادة امتداداً لنظرية أوماي عن عالم بلا حدود التي
وضعها سنة 1990 (Borderless World (1990)).
وتقوم
الفكرة الرئيسية لأوماي على أن الترابط العضوي في العالم (أي الترابط التقني
والاقتصادي والمالي…إلخ) فكك الترابط الآلي (الترابط القومي، والديني،
والثقافي،…إلخ)، مما زعزع أساس الدولة القومية التي أفرزتها مرحلة ما بعد
ويستفاليا Westphalia سنة
1648، وأن الكتل الإقليمية من ناحية وهيئات المجتمع المدني الوظيفية من ناحية أخرى
جعلت الحدود الدولية ومفهوم السيادة في حالة تراجع متواصل.
5.
تيار الرفض للهيمنة الأمريكية في الشأن الآسيوي؛ [27] ويمثل هذا التيار كلاً من
شينتارو إيشيهارا Shintaro Ishihara
وأكيو موريتا Akio Morita في
اليابان، وتركز دراستهماJapan that can say no على النقد الشديد للسياسة الأمريكية، مع التركيز على أهمية توظيف
القوة الناعمة اليابانية مثل التفوق التكنولوجي، المستوى التعليمي، والمستوى
الأخلاقي في العلاقات الدولية، وقواعد التفاوض السياسي مع القوة المركزية وهي
الولايات المتحدة.
وتتناغم
الدراسة اليابانية مع دراسة صينية كتبها عدد من الباحثين الصينيين أبرزهم تشانغ
كيانغ Song Qiang، وتحمل العنوان الرئيسي نفسه "China
that can say no"، وتقوم على فكرة التحدي للولايات
المتحدة من الزاوية الثقافية تحديداً، مع التخلص من الشعور بالدونية تجاهها.
6.
تيار الدعوة إلى المثاقفة العالمية؛ [28] ويسعى هذا التيار للترويج لدعوة تقوم على
تقديم نظرية للتوفيق بين القيم العالمية والقيم المحلية الآسيوية في التنظير
للعلاقات الدولية، ورسم خطوات التفاعل الدولي على أساس ضمان الحفاظ على الإرث
الثقافي الصيني، والتفاعل الايجابي مع تطورات العصر من ناحية، ومع الصعود الصيني
على المسرح الدولي، وتتضح معالم ذلك في دراسة هانغ جين وانغ Hung
Jen Wang الصيني الصادرة سنة 2013.
7.
التناغم الهندي مع فكرة الحفاظ على الشخصية التاريخية للمجتمع خلال التفاعل مع
القوى الدولية، [29] وتمثل دراسات المفكرة الهندية نافينيتا تشادا بهيرا Navnita
Chadha Behera النموذج الأكثر بروزاً في هذا الاتجاه،
وتحاول نافينيتا أن تعيد مستوى العنف لأي دولة في علاقاتها مع الدول الأخرى إلى
المكون الثقافي والهوية التاريخية لمجتمع تلك الدولة، وهو ما يتضح في تناولها
للإرث التاريخي في خمس دول آسيوية (الهند، وباكستان، وبنغلاديش، ونيبال،
وسيرلنكا). لكن النظريات الغربية تشكل لها الإطار النظري المرجعي في تفسير ظاهرة
العنف، وهو ما يعزز ما أشرنا له سابقاً عن أن عمق التأثير الغربي في الهند يفوق
سواها من القوى الآسيوية الكبرى.
8.
على الرغم من نقد الدراسات الاشتراكية في البداية لنظريات ومناهج الدراسات
المستقبلية في العلوم السياسية (نظريات وليس فقط مناهج)، إلا أن العودة لها تتزايد
في آسيا، ويكفي أن عالم الدراسات المستقبلية المعروف الفن توفلر Alvin
Toffler كان أول ضيف لجماعة التحديثات الأربعة في
الصين بعد موت ماوتسي تونغ، ويمكن اعتبار إسهامات الباكستاني سهيل عناية الله Sohail
Inayatullah، الذي يعمل في جامعة تايوان، خصوصاً دراسته
الصادرة سنة 2008 الأركان الستة: التفكير المستقبلي للتحوّل[30] Six
Pillars: Futures Thinking For Transforming، من
أهم الإسهامات إلى جانب دوره في تطوير تقنية تحليل التدرج السببي Causal
Layered Analysis في الدراسات المستقبلية.
5.
القواسم المشتركة في المنظور الآسيوي الحالي: [31]
يبدو
من العرض السابق أن نظريات العلاقات الدولية الآسيوية تتسم بقسمات مشتركة في
أدبيات العلاقات الدولية للدول المركزية على النحو التالي:
أ.
التركيز بنسبة أكبر كثيراً من النظريات الغربية على الأبعاد الثقافية (الدين،
والقومية، والأخلاق، والفنون) في تفسير العلاقات الدولية.
ب.
محاولة توظيف القوة الناعمة خلافاً للمنظور الغربي الذي يغلب عليه منظور القوة
الخشنة، والملاحظ أن فكرة القوة الناعمة تمّ تداولها في الأدبيات الآسيوية
التقليدية قبل طرح نظرية جوزيف ناي Joseph Nye حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية 1990-Bound
to Lead، وتبين أن أكثر مصطلح في 4 آلاف مجلة علمية
صينية تردد فيها هو مصطلح "القوة الناعمة"، وبشكل متصاعد من سنة 2006،
ويركز الصينيون على "دور التراث الفكري" لهم كقوة ناعمة خصوصاً الشرعية
والأخلاق الدولية…إلخ. وهو ما يتضح جلياً في الآتي: [32]
•
عودة الكونفوشية بقوة: من هدم بيت كونفوشيوس في فترة سابقة، إلى فتح 516 مركز
ثقافي في العالم يحمل اسم كونفوشيوس حتى 2017، والتخطيط لوصولها لألف مع نهاية
2020.
•
عودة الهندوسية في الهند لتتصدر المشهد السياسي.
•
التجاوب الكبير مع دراسات إيشيهارا الياباني التي أشرنا لها ضدّ الولايات المتحدة.
•
تأثير كتابات الكسندر دوغين لا سيّما في النظرية السياسية الرابعة على التوجهات
الروسية والتي تجعل من التقاليد الأرثوذوكسية أحد أهم أركانها.
ج.
الأفق الإنساني في النظريات الآسيوية أرحب منه في التراث الغربي، وهو ما يتبدى في
عدم التمييز الواضح بين ما هو دولي وما هو محلي، وفي جعل وحدة التحليل في الغالب
في النظرية الغربية هي الفرد Individualist. بينما التركيز في النظرية الآسيوية على النسق الجماعي Communitarianism، وهو ما يتضح في سلسلة مقالات لي كوان ييو Lee
Kwan Yew، رئيس وزراء سنغافورة السابق. [33]
د.
الصعود الآسيوي له طابع سلمي بينما الصعود الغربي له طابع عدواني، وهو ما يفسر
القيمة العليا في النزعة الفردية قياساً للنزعة الجماعية الآسيوية. فمن غير الممكن
تفسير النمو الاقتصادي الغربي بمعزل عن الاستعمار المباشر أو غير المباشر، بينما
تشكل أدبيات الصعود السلمي لبيجيان الأساس الفكري للصعود الصيني والهندي
والياباني، مع التباس في هذه النقطة في الجانب الروسي، حيث يبدو المفكر الروسي
الكسندر دوغين في هذا الجانب أكثر حدة.
ه.
مقارنة نظرية عدم الانحياز الآسيوي (وامتداداتها الإفريقية) مع مفهوم
"الحياد" الأوروبي تشير إلى فرق مهم بينهما… فالحياد هو سلوك سلبي فيه
نزعة فردية ونرجسية، بينما عدم الانحياز إيجابي فهو تعبير عن احساس أعلى بالمسؤولية
تجاه الآخرين كما قال نهرو. [34]
و.
هناك خلط بين مضمون المنظور الغربي في نظرية المركز والمحيط التي طورها واليرستاين
Immanuel
Wallerstein خصوصاً، وبين منظور الفكر الآسيوي عند
إنوغوتشي Inoguchi في
اليابان أو فونغجين شانغYongjin Zhang في
الصين، أو كانتي باجيبيا Kanti Pajipia في الهند. فالمنظور الغربي هنا يقوم على منظور صراعي (بدءاً من
داروين Charles Darwin إلى
ماركس Karl Marx إلى فرويد Sigmund
Freud إلى مورغانثو Hans
Morgenthau…إلخ)، بينما المنظور الآسيوي يقوم على منظور
ميتافيزيقي هدفه "التناغم" بين الإنسان، أي إنسان بغض النظر عن لونه
وطبقته وقوميته…إلخ، وبين قوانين الكون بما فيها ما يتعلق بالعلاقات البشرية، وهو
ما يجعلني أزعم أن المنظور الشرقي فيه مسحة تهذيبية للفكر الغربي (السياسي)،
فالمفكِّرة الهندية التي أشرنا لها سابقاً (نافينيتا تشادا بهيرا)، لا ترى أهمية
لطرح نظرية آسيوية انطلاقاً من الرغبة في نقد المنظور الغربي، فتقول "لا أريد
أن تكون نظريتي مدفوعة بمواجهة نظرية الآخر".
6.
النتائج على منطقتنا: الظاهرة الاجتماعية والسياسية ليست خيراً مطلق أو شراً مطلق:
إن
التعامل مع الظواهر الاجتماعية والسياسية يحتاج بداية وعياً بها وبقوانين
تفاعلاتها، فإلى جانب القواسم التي أشرنا لها في الفكر الآسيوي، والتي يمكن
توظيفها لصالح القضايا العربية، هناك نزعات ذاتية في دول المركز الآسيوي تبدو أكثر
تعقيداً وسلبية، مثل:
أ.
النزعة الهندوسية وموقفها العدائي من المسلمين والعرب على الرغم من أفكار رام
موهان Ram Mohan في القرن الثامن والتاسع عشر عن الإنسانية
والتسامح، وعلى الرغم من نزعات التوفيق الهندوسي الإسلامي عند ناناك Guru
Nanak، أو نزعة تأصيل الأديان كلها في الهندوسية
مثل آراء سوامي فيفيكناندا [35] Swami Vivekananda، وغيرهم.
ب.
تنطوي مبادرة الحزام والطريق الصينية على نزوع ميركنتيلي، وتوحي قسماته الأولى
بأنه سيتعسكر لاحقاً.
ج.
استمرار النزعة الميركنتيلية في السياسة اليابانية.
د.
النظر الروسي من خلال دوغين إلى المنطقة العربية كحزام واقي من التمدد الغربي.
وعليه،
فإن الاستدارة شرقاً لن تاتي بنتائج إيجابية للدول العربية إلا بشروط ثلاثة:
أ.
المعرفة الدقيقة بالإطار الفكري الذي ينطلق منه الآسيويون، وهو أمر لا تبدو
المعرفة العربية به كافية حتى الآن، بل يغلب عليها قدر من الارتجال.
ب.
زيادة نسبة الدراسات الآسيوية في الجامعات العربية، والعمل على زيادة مراكز
الدراسات العربية المتخصصة في آسيا.
ج.
توظيف العلاقات التجارية والسياسية والتاريخية، لا سيّما في الدول الآسيوية الكبرى
ذات الأقليات الإسلامية، لتكييف المواقف الآسيوية تجاه القضايا العربية.
* خاص
بمركز الزيتونة