بقلم: ا. د. إبراهيم صبيح
إذا وقفت في منطقة واشنطن العاصمة وجعلت مبنى الكابيتول أمامك فسوف تجد على يمينك بناية ضخمة هي متحف "الجو والفضاء" الفريد من نوعه.
دخلت المتحف فقابلتني في البهو الواسع طائرة معلقة تتدلى بحبال من السقف العالي. هذه الطائرة استقلها الطيار تشارلز ليندنبيرغ، الأميركي من أصل سويدي، عام 1927، لقطع المحيط الأطلسي بدون توقف، لأول مرة في تاريخ الطيران. رفعت رأسي إلى الأعلى لأتفحص الطائرة فوجدتها ضئيلة صغيرة لا يتجاوز طولها ثمانية أمتار. تخيلت أن ليندنبيرغ يجلس في قمرة القيادة فخاطبته قائلاً: "أنا أعلم أنك ستكون لوحدك في تلك الطائرة ذات المحرك الواحد والمقعد الواحد وأعلم تماماً أنك في محاولتك وضع أكبر كمية من الوقود قد قمت بتخفيف وزن الطائرة بكل صورة ممكنة حتى أنك رفضت أن تحمل جهاز الاتصال بالراديو معك على الطائرة. أعلم كل ذلك ولكنني أتمنى أن تحقق لي رغبة جامحة بأن أكون معك في هذه الرحلة. اشار الي ليندنبيرغ بالموافقة. ها قد بدأت الطائرة بالإنطلاق في تمام الساعة السابعة والنصف من صباح يوم العشرين من أيار عام 1927 من على مدرج مطار نيويورك. وزن الطائرة المليئة بالوقود يجعلها تهتز وها هي بالكاد تستطيع أن تحلق في الجو. الساعات الست الأولى من الرحلة تمضي بمرح وسعادة ولكنني أستطيع أن أرى من النظر إلى وجهك وعينيك يا تشارلز أنك لم تحظَ في الأيام الماضية بقسط وافر من النوم فلا بد أنك كنت تتقلب ذات اليمين وذات الشمال وأنت تفكر ولا بد أن وفاة ستة من خيرة طياري العالم الذين ماتوا في العامين الماضيين أثناء محاولاتهم البائسة لقطع المحيط الأطلسي بدون توقف، قد زاد من قلقك وخوفك. تمضي الساعات وتنظر من الشباك الجانبي لقمرة القيادة حتى تستطلع موقعك أثناء الطيران فأنت لا تستطيع النظر من خلال الزجاج الأمامي بسبب وجود خزان للوقود هناك. تهتز الطائرة وتنحرف نحو اليمين ونحو الشمال فتضحك وتتكلم مع نفسك. أتراك تتذكر المزرعة التي عشت فيها مع والديك في سانت لويس حيث تعلمت تفكيك وتجميع الأجهزة الميكانيكية أم تراك وأنت في الخامسة والعشرين من العمر تحلم بالزواج وتكوين عائلة. ها قد حل الظلام وبدأتَ باستطلاع نجوم السماء لتحديد موقعك ولكن تكون الجليد على الزجاج الجانبي يمنعك من ذلك. تتذكر أنه لا يوجد لديك جهاز اتصال لاسلكي فتستخدم البوصلة. لا أحد يعلم أين أنت، حتى أنت. كيف تتغلب على خوفك وأنت تعلم أنك كدت أن تواجه حتفك عند سقوط طائرة البريد التي كنت تقودها بين المدن الأميركية قبل عدة سنوات. التعب يأخذ منك كل مأخذ وتغمض عينيك وتنام بضع دقائق فتهوي الطائرة نحو المحيط ولكنك تصحو لتسحب مقدمة الطائرة إلى الأعلى في اللحظة الأخيرة. الليل يمضي وهذيانك يزيد. تسرح بذهنك تارة وتصحو تارة أخرى عندما تتذكر هدفك ومجدك القادم. هناك ذبابة تطير حول وجهك فتتحدث معها وتضحك لها وتحاول إمساكها فتبقيك مستيقظاً طول الليل. عيونك المفتوحة المحدقة إلى الأمام لا ترى ولسانك الجاف يلمس شفتيك الباهتة اللون. يبدأ صبح جديد فتطير منخفضاً فوق مياه المحيط مرة ومرة أخرى تحلق فوق السحاب. ما الذي يبقيك جالساً في كرسي القيادة الضيق الذي لا يسمح لك بأن تمد ساقيك الطويلتين وكيف تتحمل أن تبقى بدون طعام أو شراب وبدون أن تلبي نداء الطبيعة خلال الساعات الأربعين الماضية. لقد قطعت ستة آلاف كيلومتر أثناء تحليقك وها أنت تعبر بحر الشمال متوجهاً إلى فرنسا. الساعة الآن العاشرة مساءً من اليوم التالي وأنوار مطار لابورجيه في باريس تتلألأ من بعيد. خمسون ألفاً من الفرنسيين ينتظرون طائرتك حتى تهبط ويتوقف محركها فيحملك جمع غفير على أكتافهم وكأنك طفل صغير".
تسللت من الطائرة بدون ان يدري احد من الجمهور المحتشد حول تشارلز ليندنبيرغ وطائرته "روح سانت لويس" ورجعت الى حيث اقف تحت الطائرة المعلقة في متحف الجو والفضاء في واشنطن. خرجت من المتحف ومشيت بعيدا وانا اتساءل: "كيف استطعت أيها المغامر أن تطير وحدك في طريق مجهول فوق محيط هائل وفي أجواء غادرة؟ هل هو الجنون أم الطمع في الشهرة والمال. ما الذي يدفع إنساناً ما في مكان ٍ ما وفي زمان ٍ ما أن يؤمن بهدف ما، خلافاً لما يعتقده باقي البشر ثم يقوم ويسعى لتحقيق هدفه، فيخلده التاريخ". أين نحن العرب من كل هذا؟
[email protected]