في وقت ينفتح فيه الفضاء على مصراعيه أمام الجميع من خلال العديد من صور الإعلام المختلفة، ومن خلال ظهور وسائل التواصل بشتى أنواعها للتعبير عما يعتقدونه أو يدور في خلدهم أو من حولهم، أصبحت برامج الحوار التي تعتمد الإثارة تتكاثر وتزيد، وتغطي مساحة مهمة في خريطة الإعلام، بل قد يُنشئ الفرد ذاته قناة للحوار، ويعمل على إدارتها بما يغذي الاختلاف أو الخلاف أو الفتنة بين الناس.
يقع أشد الخلاف -غالبا- بين الناس في القضايا الدينية والمذهبية، التي لا سبيل إلى الوصول فيها إلى الحق أو الحقيقة أو كلمةٍ سواء، حيث إن كل فريق أو جماعة لا يمكنه أن يتزحزح قيد أنملة عما يعتقده، وإلّا فقدَ كل ما بناه طيلة حياته عن نفسه وقومه وفلسفته حول موقفه من الحياة وما بعدها، علما بأن الفرد لم يبنِ تصوراته الدينية أو معتقداته بجهد ذاتي أو بحثي، بل كان ذلك محصلة تفاعلات اجتماعية متراكمة مرّ بها المجتمع لعقود أو قرون، قبل أن يتبناها الفرد ذاته أو تُفرض عليه.
بدأ الحوار بين الطوائف والمذاهب في الإسلام منذ زمن بعيد، وربما كانت بدايته في القرن الرابع الهجري في بغداد، ولم يُفضِ وقتها إلى ثمرة، ثم كانت هناك جولة أخرى في القرن السابع الهـجري بين العالمين أبن تيمية والحلي، وتبعها مداولات كثيرة أيام الدولة الصفوية والدولة العثمانية، علما بأن كلاهما كانتا خليطا من القوميات والمذاهب، لكنّ الحوار انتهى دائما دون نتيجة، نظرا لما كان يعتقد به آنذاك بما يسمى مبدا "تكافؤ الأدلة" سواء كانت نقلية أو عقلية، وبالتالي فإن كل فريق كان يفسر انتصاره كما هو حالنا اليوم تبعا لما يمتاز به المُناظر من قدرة على الجدال، أو سعة في المعرفة، أو لباقة في علم الكلام، وليس على صحة رأيه أو مذهبه، ليعلن انتصاره وهزيمة الطرف الأخر، علما بأن المناظرة لا تزيد عن كونها جدالا يدّعي كل طرف فيها أنه أفحم الطرف الأخر، مع أن كل دليل نقلي من طرف يُقابل بدليل ينقضه الطرف الأخر، وهكذا، أمّا الأدلة العقلية فكل فريق يرتاح لما وصل اليه عقله، وهكذا ينتهي الحوار(الجدال) إلى "كل حزب بما لديهم فرحون".
إن الجدل الكلامي بين الناس كان منذ القدم، وهو الذي يعتمد أسلوب قلتم وقلنا، لم يصل يوما إلى أية نتيجة مثمرة، ولم يحدث أن اعترف طرفٌ بخطأ ما يعتقد، أو قدّم تنازلات أو اعترف للأخر بصحة ما يرى -إلّا ما ندر- بل إنه كلما انتعش الجدل، جاء بعكس المراد، إذ يتسع الخرق، ويشتد العداء.
من أهم المؤتمرات في حوار المذاهب قام أحدها بغرض توحيد المسلمين في أمة واحدة عام (1743م)، على أساس التوافق بين المذاهب، بحيث ينضوي المسلمون جميعا تحت معادلة (4+1)؛ المذاهب السنية الأربعة، إضاقة للمذهب الجعفري، بحيث يتوافق الجميع على حب آل البيت والصحابة معا، فنكسب الجميع ولا نخسر أحدا، ويمتنع الجميع عن الطعن في الشخصيات التاريخية، وقد كان آنذاك فرصة ثمينة للامساك ببذرة قابلة للإنبات، نسبةً لأمرين؛ أن المؤتمرين كانوا موجهين من أهل السلطة في أعلى مستوى لبذل الجهد للوصول إلى نتيجة، كما نُصحوا أن يبتعدوا عن الجدل الكلامي العقيم القديم، والأهم أيضا أن المؤتمر كان مرحبا به من كلتا الدولتين اللتين تمثلان المذهبين في ايران واستنبول، وانبثقت عنه قرارات وحدوية كانت في غاية الأهمية مثل الصلاة الموحدة، وإجراءات متوافق عليها في الحج ، لكن سرعان ما تكشف أن النفوس غير صافية.
لقد عُقدت الكثير من المؤتمرات واللقاءات في زمننا الحاضر بهدف التقريب بين المذاهب، لكننا كنا نفاجأ بسرعة الإعلان عن فشلها، أو الإفصاح عن عدم جدواها، وطالما وصفت بأنها تقع في إطار الشكليات والمجاملات لا أكثر، بل وجدنا الشيخ يوسف القرضاوي يُعلن يوما أنه كان مخدوعا في هذه المؤتمرات، وأن جهودا كبيرة بهذا الشأن ذهبت هباءً منثورا.
تكمن مشكلتنا كمسلمين أننا نلوي أعناق خيولنا إلى الوراء لنقرأ التاريخ بنظرة ضيقة لا يراد منها العبرة، لما هو عليه حاضرنا، بل ما زلنا نطلب الثارات، وتغليب الطائفية، والجهوية، وخلطنا السياسي بالديني، فاضحت الخلافات العقائدية واجهة للخلافات السياسية، وما زلنا نعلق بهذا التاريخ من عهد يزيد إلى عهد بشار.
بسبب هذا الانفتاح الفضائي صار المتشددون من الطرفين هم الأعلى صوتا، الذين يركزون على ما يُفرّق، ويثيرون الفتنة بين الناس، علما بأن هؤلاء بعيدون عن الاكتواء بنارها، لكنهم يستسيغون بثها بين الناس لتحصل بعدها الكوارث، حيث أن كثيرا من هؤلاء يعيشون خارج إطار العالم الإسلامي كله، في لندن، أو أمريكا، وغيرهما، وقد صرّح الرئيس الإيراني يوما بما معناه أن مشكلتنا تكمن في تشيع لندن، أمّا لندن وواشنطن وغيرهما فما دام الأمر لا يوجه إلى جمهورها، ولا يؤذيه، أو إلى الجمهور الأوروبي أو الأمريكي -فلا بأس- أن يصنف تحت شعار حرية الرأي.
ربما لا يستطيع المسلمون أن يحذفوا هذا الخلاف من حياتهم أبدا، وليست مشكلة أن يبقى كل أهل مذهب على مذهبهم، وهو أمر لا ينفرد به المسلمون، لكننا يمكن أن نهوّن من شأن هذا الخلاف بالابتعاد عن تسفيه كل طرف معتقد الطرف الأخر، وإعلاء صوت الاعتدال، ونبذ أصوات الفتنة، وعدم الاستسلام لروايات تاريخية مرّ عليها زمن بعيد تحتاج دائما للتحقق منها، ونُسلّم جميعا لقوله عزّ وجل “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين".