بقلم: أ.د. ابراهيم صبيح
كنت طفلاً صغيراً عندما أخذني والدي إلى لبنان في أول رحلة لي في شاحنته التي كان يسوقها بين الزرقاء وبيروت. تعبر نقطة المصنع الحدودية بين سوريا ولبنان وتتجه بك السيارة نحو مدينة صغيرة تدعى شتورا. تنزل هناك في مطعم صغير كانت تملكه الراحلة بديعة مصابني التي اشتهرت كراقصة في شارع محمد علي في القاهرة أبان الحرب العالمية الثانية. يشتهر هذا المطعم بتقديم اللبنة اللبنانية مع النعناع والمرتديلا عند الإفطار أو "الترويقة" باللهجة اللبنانية. تقع شتورا على مفترق طرق فإما أن تتجه غرباً إلى بيروت عبر جبال شاهقة تدعى ظهر البيدر تقع عليها مصايف عالية وبحمدون أو تتجه شرقاً إلى زحلة ثم مرتفعات ظهور الشوير نزولا ً إلى بيروت. زرت مدينة زحلة مرات عديدة ونحن في طريقنا إلى غابات بولونيا حيث نزور آل داغر اللبنانيين أصدقاء العائلة اللذين يملكون هناك نزلا ً صغيرة (بنسيون) يؤمه السياح بكثرة. أذكر أنه في زيارتي الأولى لمنزل آل داغر ضاع علي طعام الإفطار وكدت أموت جوعاً لأنني أجبتهم بأنني "رايق ومبسوط" عندما سألوني "هل تحب أن تتروق؟"
زحلة هي جارة الوادي أما الوادي فهو وادي العرايش حيث يتدفق نهر البردوني الذي ينبع من مغارة في سفح جبل صنين المطل على زحلة. تدخل المدينة فتبهرك بجمال طبيعتها وطقسها المعتدل الجميل. تتمازج أبنيتها وأسواقها القديمة مع بيوتها الحديثة ذات القرميد الأحمر فتزيدها جمالاً على جمال. تجلس في مقاهيها ومطاعمها الموجودة على النهر مباشرة فتسمع خرير المياه وسط طبيعة ساحرة. بعد أن تتناول الطعام يأتيك النادل فيضع لك ما اخترته من الفاكهة في سلة شبكية ويدلي بها داخل النهر فتخرج في برودة الثلج لتأكلها. اخترت أنا في إحدى زياراتي بطيخة وضعها النادل في الماء فانفلقت إلى قطعتين من شدة البرودة. تستطيع إذا وقفت فوق برج زحلة أن ترى من هناك جبل الشيخ وأطلال بعلبك حيث دوالي العنب تختلط مع بقايا أثار تعود إلى آلاف السنين.
تعرف زحلة بأسماء أخرى مثل مدينة الجمال، عروس البقاع ومدينة الشعراء ذلك أنها أعطت لبنان أسماء شعرية معروفة كتبوا عنها مثل الأخطل الصغير وخليل مطران. ولكن حين ترد زحلة في الخاطر فإن أول ما يقفز إلى الأذهان أمير الشعراء أحمد شوقي الذي زار زحلة في أواسط العشرينيات من القرن الماضي فخلدها بقصيدته الرائعة "يا جارة الوادي" التي غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب قبل أن تغنيها درة الشرق فيروز والراحلة نور الهدى.
يا جارةَ الوادي طَرِبتُ وعــادني
ما يشبه الأحلامَ من ذكـــراكِ
مَثلتُ في الذكرى هواك وفي الكرى
والذكرياتُ صدى السِنينَ الحاكِ
لم ادر ما طيب العناقِ على الهوى
حتى ترفقَ ساعدي فطواكِ
وتَعطلتْ لغةُ الكلام ِ وخاطبتْ
عيني في لغةِ الهوى عينــاكِ
لا أمس ِ من عمرِ الزمانِ ولا غدٍ
جُمِعَ الزمانُ فكانَ يومَ رضاك
ِ
خلد اللبنانيون أحمد شوقي بوضع أكبر تمثال له في قلب زحلة مثلما خلده الإيطاليون بنصب تمثال له في إحدى حدائق روما. لشوقي ست مسرحيات وديوانٌ بعنوان "شوقيات" يتضمن سيرته ومجمل شعره، ومنها يا جارة الوادي التي ترددت كلماتها ولحنها من مذياع السيارة حتى انتهى الطريق.
توقف محرك السيارة ونظرت أنا في عيني جارتي، شابة يافعة في عمر الزهور ذات عيون سوداء واسعة جميلة، هي ابنتي فقلت: أنتِ وأحمد شوقي وفيروز وجارة الوادي معاً، حقاً للحبِ أطيافٌ كثيرة.