الأخلاق الوطنية الأردنية هي نتاج عفوي ومبدئي لنضالات البناة الأوائل وهي قيّم كان من الواجب أن يتمسك بها الساسة ورجال الحكم من شتى مشاربهم الفكرية، والسياسية، والثقافية؛ بل هي قيم لا تحتمل الغموض، والفئوية، والخطاب المزدوج، والمشاعر الثنائية لما قبل الحكم وبعده وبصورة قد أربكت القرار السياسي -للأسف- وأفقدت الثقة في احترامه للمعايير الأخلاقية التي تحكم ضوابط البناء الوطني، وعدالة المشاركة والانتاج. ولعل التّخبط والعشوائيّة والتداخل "البراجماتي" في تناوب المحافظين، والليبراليين على إدارة السلطة التنفيذية ومؤسساتها أفقدا الإدارة الأردنية فرصة تاريخية في تأهيل النّخب على أسس وطنية عادلة.
هناك معركة شرسة تُمارس في العلن والخفاء يقودها غُلاة المحافظين الجدد والقدامى من جهة، والليبراليون بشقيهم العلماني والاجتماعي من جهة أخرى. ووقود هذه الحرب ونتائجها هي بعض النّخب "المنغولية" هنا وهناك ممن أبدت استعدادها للتخلي عن قيّم العدالة والمساواة والنزاهة الناجزة والأمينة في تقييم الأشخاص والمواقف، والتخلي عن سياسة الاجتثاث والإقصاء؛ خدمة لصراع محتدم لم يعد خافياً على أحد، بل إن الأخطر هو ازدواجية الخطاب المعلن والخفي الذي أدى إلى حالة من الفصام القاتل الذي يعتري النّخب الوطنية المؤمنة الصادقة التي لا تريد أن تدخل في أتون هذا الصراع أو تحمل آثامه المدمرة على الهوية، والإبداع، والتكاتف الوطني الشريف.
يُخطىء من يظن أن مفهوم الدولة المدنيّة بما تتضمنه من قبول الآخر، والحوار والمساواة، وسيادة القانون، ومفهوم المواطنة هي بضاعة يختص فيها الليبراليون وحدهم وبعض قوى اليسار؛ ذلك أن قوى البيروقراطية الأردنية ومنذ تاسيس الدولة قدمت إنموذجاً راقياً في قبول الآخر، ورفض التطرف، واحترام قيم العدالة والمساواة والعيش المشترك، ولكنها تمسكت بمفهوم الوطنيّة بديلاً للمواطنة باعتبار الأخيرة مفهومًا "براجماتياً" مجرداً؛ في حين أن الوطنيّة هي مفهوم أكثر نبلاً وأخلاقية للمواطنة؛ كونه يقترن بالتضحية والشهادة بعيداً عن مفاهيم الربح والخسارة، ومطالب دافعي الضرائب التي تنادي به ثقافة المواطنة المجرّدة.
العلاقة بين النّخب الحاكمة وتلك التي تتربص بها -وهكذا دواليك- أصبح واجباً أن تتغير فوراً دون إبطاء وأن ترتكز إلى قيم الوطنيّة ومعايير الأخلاق السياسية القائمة على قبول الآخر، ووحدة الخطاب السياسي والتنموي وعلى الأقل في الشأن الداخلي وتفهم نظرية الإحلال الموضوعي للمواقع والمواقف، وتجنّب أسلوب الإبدال الإقصائي الذي يجر الويلات على الاقتصاد والإدارة، ويُولّد مفهوم الثأر السلبي الذي شوّه مفهوم الموقع العام في العقد الأخير على الأقل، وضرورة أن يرتقي الخطاب النخبوي لمستوى الآمال الوطنية التي تنبذ الإقصاء وتتمسك بأخلاقيات إشغال الموقع العام.
كنت قد كتبت قبل أيام عن الوقيعة السياسية والشخصية في الإطار العام واثرها في تراجع مفهوم العدالة والمساواة وما يرافق ذلك من إقصاء النخب المستقلة التي تلتزم بسيادة القانون وتأبى مفهوم الانقياد الأعمى الذي يضر بمتطلبات المصلحة الوطنية العليا للدولة، واليوم أجدها مناسبة للتذكير ودق ناقوس الخطر من تبني قيم الثأر النخبوي الذي سيغير مفهوم الأداء العام، والمشاركة السياسية إلى منطلقات شخصية، وفئوية ضيّقة تُؤذي الوطن وتعيد مفهوم الإصلاح السياسي والإداري لمستويات لا تليق بحرص القيادة السياسية التي تبحث عن الأفضل لبناء هذا الوطن.
مرة أخرى نجد أنه قد أضحى من الواجب إعادة الاعتبار للموقع العام، ومرتكزات الأخلاق الوطنية الأردنية التي ما انفكت في تقديم التضحيات الجِسام للبناء الوطني على أسس أخلاقية راسخة تنبذ النوايا الخبيثة، وتعيد للبهاء الأردني ألقه الغابر، وفي هذا الصدد بات من الضروري أن تعيد المؤسسات الفاعلة قراءة المشهد الوطني من هذه الزاوية بعد أن تمكنت في الأشهر الاخيرة من إعادة الإعتبار لهيبة الدولة ومؤسساتها الرئيسة بعد تنمّر خطير في الفترة الماضية كاد أن يؤدي إلى منزلقات لا تليق بمفهوم الدولة الراشدة الراسخة.
وحمى الله وطننا الحبيب من كل سوء..!!