قلبت جائحة كورونا سلم الأولويات الوطنية والمؤسسية والمجتمعية رأساً على
عقب عندنا وفي الدول كافة التي ألمّ بها الوباء، في مشهد هوليودي كئيب بنهاية
مفتوحة يترك فيها للمشاهد تخيل ما ستأول إليه الأحداث. في الدول غير الديمقراطية
وتلك التي تتلمس طريقها نحو التعددية، يبدو مفهوماً سهولة الانبهار والتأثر بما
اتخذته بعض النظم الشمولية من تدابير صارمة لا تراعي احترام الحقوق والحريات
الأساسية قيد أنملة وذلك لكبح جماح الوباء، إلى الحد الذي دفع البعض للمطالبة
بتبني مثل تلك النماذج ليس فقط وقت الأزمة بل إلى ما بعدها بحين. إعادة ترتيب
الأولويات خلال حالة الطوارئ لا يعني على الإطلاق انحسار تمتع الناس بحقوقهم
الأساسية خصوصاً الحق في التعبير والحماية من العنف وممارسة الحقوق السياسية.
ثمة تيار عفوي ظهر أثناء هذه الأزمة تعامل مع
الحقوق الأساسية على أنها من الأمور الثانوية التي لا مساحة ولا وقت لها في مواجهة
هذا الوباء. فعلى سبيل المثال، تجلى ذلك
مع التزايد المتوقع لحالات العنف الأسري المرتكبة ضد النساء والأطفال وربما
البالغين من الأبناء والبنات، إذ رأى البعض في تعبير العديد من الأفراد خصوصاً من
النساء عن شعورهن بالمرارة والظلم نتيجة ما ألقي عليهنّ من عبء مضاعف وسوء معاملة
أثناء فترة حظر التجول؛ بأنه نوع من الترف أو عدم الحس بالمسؤولية أمام ما تواجهه
البلاد من تهديد. المتابع لمجريات إدارة الأزمة لدى بعض الدول، يلاحظ أن الإعلان
عن الخدمات والبرامج العاجلة والطارئة للحماية من العنف تتصدر أولويات إدارة
الأزمة لديها.
حرية التعبير بدورها لم تلقَ قبولاً لدى البعض
خلال ما نمر به من ظرف استثنائي، حيث تفشت الاتهامات المتعلقة بإذاعة الأخبار
الكاذبة وترويج الشائعات وغيرها. لا يمكن إنكار أن هناك ممارسات شاذة كما هو الحال
في كل ظرف استثنائي تظهر على أطرافه كائنات طفيلية تبحث عن موضع قدم في مستنقع
الآلام والتحديات التي يعيشها الناس، إلا أننا جميعاً أحوج ما نكون لعين موضوعية
مخلصة ترصد ولا تترصد وتراقب ولا تترقب، لتكون عوناً لصانع القرار ومنفذيه في
تحسين الأداء وتدارك ما قد يكون سقط من حساباتنا في خضم التعامل مع الأزمة.
قبل الأزمة أعلن جلالة الملك أننا مقبلون على
استحقاق دستوري خلال الصيف القادم يتمثل في إجراء الانتخابات النيابية في موعدها،
قطع هذا التصريح الطريق على ما بدأ من تكهنات بالتمديد للمجلس القائم، ودفع
بالهيئة المستقلة ومن ينتوي الترشح إلى البدء في إعداد العدة لخوض غمار المعركة
الانتخابية، وما أن باغتتنا جائحة كورونا، حتى سارع البعض إلى الدعوى ليس إلى
إرجاء الانتخابات بل إلغائها تماماً من خلال فرض الأحكام العرفية لمواجهة مرحلة ما
بعد الأزمة. قد تكون الدعوة لفرض الأحكام العرفية لها ما يبررها من وجهة نظر
أصحابها الذين قد يكونون مسكونين بمتلازمة الأمن والاقتصاد الشمولي الرائجة في
الأنظمة غير الديمقراطية، إلا أن الإطاحة بما تم تحقيقه منذ عام 1989 من تقدم على
المستوى السياسي والمتمثل في عودة الحياة البرلمانية وما تم تحقيقه في مجال حقوق
الإنسان من خلال المصادقة على حزمة كبيرة من الاتفاقيات والمواثيق ذات الصلة؛ يبدو
أكبر بكثير من أن يتم التضحية به وذرّه في الهواء وكأنه لم يكن. الأجواء
الديمقراطية والاقتصاد الحر ولا ريب يعد
جاذباً للاستثمار وباعثاً على الطمئنينة للمستثمرين، فكيف يمكن أن يركن المستثمر
ويأمن على ماله وأعماله تحت ظل أحكام عرفية تتراجع معها الحقوق والحريات بل وسيادة
القانون لحساب التدابير والقرارات الأحادية للسلطة التنفيذية.
في الوقت الذي تواجه فيه أمريكا وإسبانيا
وإيطاليا وفرنسا وألمانيا موجة مد عاتية من الوباء أزهقت عشرات الألوف من الأرواح
ونالت من سلامة مئات الألوف من البشر في تلك الدول، إلا أن أحداً لم يفكر في الإفتئات
على الدستور وتعليق الحياة الديمقراطية ولو لبرهة، بل العكس هو الصحيح، إذ يسود
إدارة الأزمة في هذه الدول نهج ديمقراطي خالص بكل ما فيه من اختلاف في الآراء
وتعددية ومسائلة ومشاركة وإشراك.
لم يخفِ الكثيرون إعجابهم بما قامت به الصين من
تدابير صارمة افتأتت على حريات الناس وحقوقهم لاحتواء تفشي الوباء عندها، وبلغ هذا
الإعجاب حد تبشير أصحابه لنا بأفول نجم النظم الديمقراطية لحساب الأنظمة الشمولية،
والدعوى إلى تبني نهج اقتصادي شمولي يقوم على نظرية الدولة الراعية عوضاً عن
الاقتصاد الحر المفتوح. الغريب نسيان أو تناسي هؤلاء لحقيقة أن طبيعة النظام
الشمولي في الصين هو ما جعلها تخفي ولأسابيع حاسمة عن مواطنيها والعالم بأسره
طبيعة وكنه الوباء ومعدل انتقاله وانتشاره بين البشر، وذلك خشية زعزعة استقرار
النظام السياسي والمحافظة على المصالح الاقتصادية في مجال الاستثمارات القائمة على
أراضيها وحركة التبادل التجاري خصوصاً في جانبه المتعلق بالتصدير.
الأخطر من الوباء أن نخسر ما حققناه من إنجازات
وتقدم في مجال تعزيز حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية، فكلا الأمرين ليسا من
الأولويات التي يمكن إعادة ترتيبها، بل هما ركيزتا كل أجندة بأولوياتها حتى مع إعلان حالة الطوارئ وإدارة الأزمات.