يقول الراحل عباس محمود العقاد: "لا يكفي أن تكون في النور لترى، بل يجب أن يكون في النور ما تراه".
لا يبدو أن العالم بعلمائه وخبرائه وساسته يقف حتى في النور في معركته غير المتكافئة حتى الآن مع فيروس كورونا الذي بات يعرف في أدبيات الأزمة الراهنة بالعدو الخفي، فندرة المعلومات وعدم موثوقية الحقائق المعروفة عنه، تجعلنا دائماً في دائرة الظل أمام هذا العدو المستتر.
هذا الواقع يجسد حقيقة أننا أمام جولات طويلة وممتدة في مصارعة هذا الوباء الشرس الذي يتصاعد عداد وفياته وإصاباته بعشرات الألوف يومياً على مستوى العالم. لقد بات طموح العديد من الدول التي تفشى فيها الوباء بشدة؛ يستكين إلى حد تمنّي الوصول إلى مرحلة الاستقرار في منحنى الإصابات والوفيات أو ما يعرف بتسطيح المنحنى (plateau/flattening”، حتى لو كانت هذه المرحلة من الاستقرار تعني عملياً مئات الوفيات وألوف الإصابات يوميا.
تداركت الجهات المعنية عندنا خطأ التصريح قبل فرض الحظر بأن الأردن خالي من الفيروس، حينما رفع أحد خبراء الطب الراية الحمراء منذراً بخطورة ترسيخ هذا الاعتقاد، وما هي إلا ساعات تلت هذا التجاذب؛ حتى ظهرت الإصابة الأولى ثم الثانية فالثالثة...
انخفاض عدد الإصابات المسجلة يومياً عندنا قد يبعث على التفاؤل الذي يجب أن يكون مشوباً بالحذر، إذ يجب قراءة هذا الانخفاض في سياق تجذر ثقافة عدم الإفصاح لدى الكثير من أفراد المجتمع الذين يخشون الوصمة إذا ما أخذت منهم عينة للفحص، فما بالك إذا ما ثبتت أصابتهم بالفيروس، ناهيك، وهذا الأهم، عن محدودية عدد الفحوصات التي يتم إجراؤها يوميا. أجرت الولايات المتحدة حتى الآن قرابة 2 مليون فحص، وسبقتها في ذلك ألمانيا التي أجرت في أسبوع واحد قرابة النصف مليون فحص، وكذلك الأمر في سنغافورا وكوريا وغيرها من الدول التي اعتمدت نهج توسيع قاعدة أخذ العينات من المواطنين لحصر ومحاصرة الإصابات وعزلها ومعالجتها.
فرض الحظر لدينا ساهم ولا ريب في التقليل من الحاجة لإجراء عدد كبير من الفحوصات، إذ تم اتباع ما يمكن تسميته بسياسة الفحص بعد الإفصاح؛ أي أن الفحص يجرى لمن تظهر عليه الأعراض وتستمر لمدة معينة، وذلك لندرة الموارد المالية والبشرية اللازمة لتوسيع قاعدة الفحص في المملكة، كما أن فرض الحظر ساهم إلى حد معقول في التقليل من الانتشار المجتمعي للوباء، لكن تبقى حقيقة أن القلة النسبية في الفحوصات التي تجرى يومياً؛ تعد من الأسباب الرئيسة الكامنة وراء انخفاض عدد حالات الإصابة المسجلة، هذا ما دعى جلالة الملك إلى التأكيد على ضرورة زيادة عدد الفحوصات التي تجرى يومياً في المستقبل القريب، وهو ما دفع وزارة الصحة مؤخراً إلى البدء في أخذ بضع عشرات من العينات العشوائية في إقليم الجنوب.
هذه الحقيقة تعيد الكرة مرة أخرى إلى ملعبنا نحن وليس إلى ملعب أي جهة رسمية أو أمنية في محاربة هذا الوباء، حيث أن تقييد الحركة وتعطيل المؤسسات والقطاعات المختلفة لن يدوم إلى ما لا نهاية، لكن فك الحظر والعودة للعمل والنشاط المؤسسي لا يعني على الإطلاق انتهاء الوباء والقضاء عليه قضاءً مبرما، الأمر الذي يعني ببساطة أن تناسي وجود الفيروس بيننا قد يفضي إلى عودة الوباء بشراسة وضراوة قد يصعب السيطرة عليه معها إذا ما عدنا لديدن الاختلاط والتلامس وتجاهلنا ضرورة التباعد الاجتماعي.
مهمة الحكومة على صعوبتها أثناء فترة حظر التجول، تبدو سهلة ويسيرة إذا ما قورنت بما يتوجب عليها القيام به بعد انتهاء الحظر، إذ أن مراقبة الأماكن العامة والأسواق والمحال التجارية ووسائط النقل وأماكن التوقيف والاحتجاز والمحاكم ودور العبادة والمعابر الحدودية وغيرها من المرافق العامة؛ للتأكد من أنها جميعاً تراعي متطلبات السلامة ومسافات الأمان، هي مهمة أشبه بالمستحيلة إذا ما طغى سلوك عدم الاكتراث واللا مبالاة.
فيروس كورونا باقي ما بقيت عادات التزاحم والتلامس والمخالطة الفوضوية، إلى أن يحقق العلماء نصرهم المنتظر في التوصل إلى دواء ومصل يقضي علمياً وعملياً عليه، وهو أمر قد يطول انتظاره لشهور وربما سنة أو أكثر وفقاً لما يصرح به أهل الاختصاص حول العالم.
الكلفة الاقتصادية للحظر تبدو كبيرة وثقيلة، لكن الآثار الاقتصادية والصحية التي قد تترتب على تفشي العدوى ولو ببضع آلاف؛ سوف تكون وخيمة وغير محتملة في حال انهيار النظام الصحي لدينا؛ الذي يشكو أصلاً من عوارض وتحديات قديمة متجددة، لذلك فإن ما تم اتخاذه من تدابير وإجراءات حتى الآن يبدو أنه يسير في الاتجاه الصحيح.
تسيس الأزمة باتت ظاهرة عالمية تفشت بالحدة ذاتها التي تفشى فيها الوباء، ومن المقلق تصاعد أصوات تنادي بفرض الأحكام العرفية لمجابهة آثار تفشي الفيروس وما ترتب على مجابهته من تدابير وإجراءات فتت وما تزال في عضد الاقتصاد. نحن أحوج ما نكون إلى التفكير في أفضل السبل لترسيخ ثقافة مجتمعية جديدة تحاصر انتقال العدوى وتحول دون تفشيها بشراسة في المستقبل الذي نرجو أن لا يكون قريب، مع ضرورة مساندة مؤسسات الدولة لتحقيق المعادلة الأصعب في الموازنة بين المحافظة على سلامة الناس وأرواحها، ومنع تدهور الاقتصاد وانهياره لا قدر الله.
الرضى العام عمّا اتخذته الدولة من إجراءات وتدابير منذ بداية الأزمة حتى الآن، لا ينبغي أن ينسينا حقيقة أننا نستبق الأسوأ لكي لا يقع، لأن وقوعه لا سمح الله؛ سوف يفضي إلى حالة انهيار وشلل في القطاع الصحي والاقتصادي، وقد تتجاوز آثار مثل هكذا حالة حدودنا -بما لبلدنا من دور استراتيجي ومحوري في المنطقة- لتصيب المنظومات بل وربما الأنظمة المجاورة بأفدح الأضرار.