مرّت سنوات عديدة ، قبل أن أعود في ذاكرتي الى شجرة الرمّان التي زرعتها جدّتي قبل وفاتها . كانت مع بعض الأشتال قد أحضرتها من البساتين الحجازيّة . تحمل الأشتال في يدها اليمنى وعلى رأسها ربطت منديلا كبيرا ، فيه أعشاب لإطعام بضع رؤوس من الماعز تنتظرها في حظيرة صغيرة . اهتمّت جدّتي بشتلة الرمّان . لم تسمح لي أن أزرعها بيدي ، ولكنّها طلبت منّي أن أحفر حفرة في الحوش ثمّ أضع عليها كميّة من سماد زبل الماعز ، شارحة لي أنّ التربة لا تعطي للشجرة التغذية المطلوبة ، فيجب أن تضاف كميّة من السماد الطبيعي حتّى تنمو وتكبر . لم أسألها ، ما الذي يجعلها تزرع رمّانة تحتاج الى سنوات حتّى تثمر ، لأنّي كنت أعتقد جازما أن جدّتي القويّة ستعيش سنوات طويلة وتأكل من ثمرها عدّة مرّات .
كانت طفلة لمّا وصل بها القطار الى جرف الدراويش ، مع مجموعة من النساء والأطفال والشيوخ ، ممن كتب الله لهم عمرا بأن يبقوا أحياء بعد أن قطعوا مسافات طويلة من قراهم وبلداتهم عند سفح جبل أرارات ، ليس معهم من متاع الدنيا الّا شيء قليل من الطعام ، وبعض مما يتحسّن عليهم به بعض الناس الذين يرجون أن يكتب الله لهم حسنات . تفرّق جمع أقربائهم في عين العرب ، حيث مفترق طرق القطار ، بعضهم ذهب الى شمال سوريّا والآخرين الى سهل بعلبك وقليل استمروّا في مسيرهم الى دمشق ثمّ بادية الشام ، ومن جرف الدراويش انتقلوا الى معان ، وقد كانت حاضرة الصحراء وملتقى طرق الحجيج . اهتمّ بهم الناس ورعوهم ، مع أنّهم لا يعرفون من اللغة العربيّة الّا قليل ، ولم يفهموا اللهجة المحليّة الّا بعد جهد جهيد .
اختارها جدّي لأبي كي تكون زوجته وقد كان تاجرا للأغنام ، يتنقّل بها من نجد الى بادية الشام ويبيعها في بئرالسبع ، ويجلب معه من غزّة بضائع مختلفة يبيعها في معان . لم تشكو جدّتي يوما من معاملة سيّئة ، ولا من شحّ في الاحتياجات المعيشيّة . ومع أنّ الناس في الدولة الأردنيّة الناشئة ، كانوا يعيشون في ظروف قاسية ، وقلّة في الموارد ، الّا أن غرفتها المبنيّة من الطين ، كان فيها أساسيات الحياة ، فهي خبيرة في تحويل الفواكه الى مربّى ، وفي حفظ الأغذية من التلف بدون ثلّاجة ، وفي جزّ الصوف وتنظيفه واستخدامه في وسائل النوم ، وتجد في صندوقها حلويّات من ذلك الزمن الجميل . وكانت اينما حلّت تزرع أشجارا مختلفة وتقول ، لعلّ أحدهم يأتي فيأكل منها ويدعوا لنا .
كانت جدّتي تشتاق الى بلادها وأهلها المتفرّقين في البلدان ، وقد أخذت تكتب لهم رسائل بخطّ جميل بلغتها الأرمنيّة بعد أن عرفت عناوينهم ، فأتعجّب أنا ، لأنّي كنت أعتقد أنّ المدارس لم تكن موجودة في زمانهم . حكت لي كثيرا عن طفولتها ، وعن بيتهم الكبير ، وأباها وجيه البلدة ، الذي كان يحلّ مشاكل الجميع ويساعد من يأتي اليه طلبا للمساعدة . وأنّها كانت تلعب في صحن الدار عندما جاء العسكر ، فأخذوا أباها ، الذي لم تراه بعدها ، وأمروهم أن يجهّزوا أنفسهم للسفر ، من غير أن يعرفوا اتجاه سفرهم . لم تأخذ معها من ألعابها شيئا ، ظنا منها أنها ستعود الى بيتهم بعد قليل .
تنّهدت جدّتي بعد أن أنهيت وضع التراب على شجرة الرمّان الوليدة . شبّكت أصابع يديها ، ثم أخذت تحرّك ابهام اليد اليسرى فوق ابهام اليد اليمنى بحركة دائريّة وتقول ، لا تنسى أن تدعوا لي بالرحمة وأنت تأكل من ثمرها . جرت عدّة محاولات لاقتلاع شجرة الرمّان من مكانها ، ليحلّ الاسمنت محلّها الّا أنّ جذورها تنبت من جديد معلنة رغبتها في الحياة ، وأنّ ما زرعه الأجداد لا يمكن أن يقتلعه الأحفاد ، وان حاولوا ألف مرّة .