بقلم: د. عودة أبو درويش
من يتابع سوق المبادرات هذه الأيّام
، يعجب ويحتار لكثرتها وتنوّعها ، بحيث أصبحت موضة يتنافس الجميع على جعلها من دون
أيّ تأثير ، وفاقدة للمعنى الحقيقي للمبادرة ، التي يجب أن تكّون خلّاقة وجديدة
وتقدّم للمجتمع خدمة في المجال الاجتماعي
أو الاقتصادي أو السياسي وغيرها من المجالات . وهي أصبحت فعلا سوق ، عرض وطلب ،
صناعة وترويج ، أسماء كثيرة لأفكار كلّها تدور في فلك خدمة منتجيها ، الذين يسعون
على الغالب ، لكسب التمويل المادي لمبادراتهم من أيّ جهة كانت ، وبأي مقابل لهذا
التمويل ، ومعظم الجهات المموّلة خارجية ، وهي تشترط أن تكون المبادرات موّجهة لأمر
ما ، ولفئة معيّنة من المجتمع ، بقصد تغيير الأفكار والمسلّمات .
في بعض البلدان ، يقوم المواطنين على اختلاف
اعمارهم ، أيّام العطل الاسبوعية بأعمال
تطوّعيّة خدمة لمدنهم وأحيائهم ، مثل صيانة بسيطة لمدارس أو تنظيف شوارع أو مساعدة
كبار السن في دور الرعاية ، وفي بعض الدول ، صباح أيّام العطل يضع الناس أمام بيوتهم أشياء لم يعودوا بحاجة
اليها مثل ملابس جيّدة وغير مهترئة ، أو اجهزة كهربائيّة صالحة للاستعمال ، أو
أثاث منزلي في حالة جيّدة أو يحتاج الى صيانة بسيطة ، أو كتب وجرائد انتهوا من
قراءتها ، لمدّة ساعتين يأتي من يحتاج هذه الاشياء ويأخذها ، ثمّ تجمعها البلديّة
وتأخذها لأماكن تجميع تشبه المعرض ، ليأخذها المحتاجين اللذين يخجلون من اخذها من
أبواب البيوت ، وهناك لا يسمّون هذا العمل
مبادرة بل شيء مسلّم به . وقد كان لدينا تعاون في أمور رائعة كما عندهم ، مثل تعاون
أهل الحي في صبّة سقف بيت مثلا بمبادرة منهم ، ومن دون مقابل أو تنظيف الرجال
لمداخل بيوتهم ومحالهم وغيرها .
اقترح ،
على سبيل المزاح ، وعلى غرار هيئة تنظيم قطاع الاتصالات ، وهيئة تنظيم قطاع الكهرباء
، انشاء هيئة تنظيم قطاع المبادرات . يعيّن لها مجلس ادارة يكون رئيسه من العارفين
بأنواع المبادرات ومسمياتها ويعرف الكثير من اللغات بطلاقة ، مع عدم اشتراط معرفته
باللغة العربيّة ، وله اتصالات مع دول العالم الداعمة للمبادرات الايجابيّة وغير
الايجابية ، ويصرف له مكافئة مجزية ، لا تقل عن مكافآت رؤساء مجالس الهيئات الاخرى
، ويتم اختيار أعضاء المجلس من مخترعي اسماء المبادرات الغريبة والغربيّة ، والتي
تجذب الشباب ، ذكورا واناثا للانخراط بها ، حتّى لو لم يعرفوا اهدافها والى ماذا
ترمي . ثم يتم افتتاح مراكز لإدارة المبادرات في المحافظات والالوية ، الحضر
والبادية ، حتّى يتابعوا النتائج العظيمة التي يصل اليها القائمين عليها ، وتحققها
المبادرات .
اجزم أنّ المبادرات بهذا الكم الهائل ، وبهذه
المسميات الكثيرة والاهداف غير الواضحة ، لا توجد الّا في دول العالم الثالث ،
النامي ببطء أو غير النامي أصلا . ما معنى أن يخترع احدهم مبادرة لتنظيف شارع اذا
كان الشارع نظيفا ، وما الداعي لاستحداث اخرى لحماية المرأة من التغوّل اذا كانت
القوانين تسمح بذلك ، وكيف نفهم مبادرة يطلقها بعضهم لجمع ملابس قديمة وتوزيعها
على الفقراء ، لو لم يكن الفقراء موجودين أصلا . ولا أفهم ابدا المبادرات
الاقتصاديّة اذا كان راتب الموّظف لا يكفيه لمتطلبات الحياة ويتبخّر في أول الشهر
, وما الداعي لمبادرة انتماء للوطن اذا كان اغلى شيء عند المواطنين الوطن .
يجد البعض أن قيامهم بمبادرة ما ، تساعدهم في
الظهور ، وتعطيهم شهرة مجتمعيّة ومكانة
عند مسؤولي الحكومة ، حتّى لو كانت أهداف هذه المبادرات ، تغيير أعراف وتقاليد ،
قيم ومبادئ ، كانت وما تزال راسخة في عقول الناس وقلوبهم .