تعاني الأمة العربية في واقعها الحالي من الانحدار في منعطف تاريخي خطير، لا يهدد فقط استقرار وسلامة الكيانات القطرية القائمة، بل سلامة الإنسان العربي وممتلكاته وثرواته وأرضه وهويته، ما يؤشر إلى كارثة تاريخية لم تحصل للعرب حتى في أسوء حالات الانحطاط التي مرت بها الأمة بعد اجتياح التتار وسقوط دولتهم في بغداد، ولا أعتقد أنّ هناك أمَّةً في العالم تشهد من الصراعات والتحدّيات كما هو عليه حال الأمّة العربية الآن، فهذه الأمَّة تشهد على مدار قرنٍ من الزمن مزيجاً من الأزمات التي بعضها هو محصّلة للتدخّل الخارجي والأطماع الأجنبية، وبعضها الآخر هو نتيجة إفراز لأوضاع داخلية يسودها الاستبداد السياسي والتمييز الاجتماعي والفشل الاقتصادي والفساد، وأزمة قيم يعيشها المواطن، إضافةً إلى جمود فكري في كيفيّة فهم الدين وعلاقته بالمجتمع، وانتعاش الروح المذهبية وتردى الروح الوطنية، وتأخر عن ركب الحضارة الإنسانية، ولم تعرف البلاد العربية تجزئة طويلة الأمد وظروف مشابهة لهذه الحالة إلاّ في مرحلتين من تاريخها العربي الإسلامي: مرحلة الغزو الصليبي الذي يسمّيه الغربيون: (الحروب الصليبية). ثم المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى عندما فرضت بريطانيا وفرنسا حالة التجزئة العربية الناجمة عن سايكس بيكو 1917 ، والتي انتقلت بعد الحرب العالمية الثانية تحت الوصاية والهيمنة الأمريكية، ورغم أن هذه التجزئة حافظت على وحدة أقطارها حتى الآن، ولكن الوضع العربي الحالي نراه يمثل حالة انقسام وتنافر ويسير نحو تجزئة الأقطار والمجتمعات من خلال صراعات وحروب وفتن داخلية وخارجية، وما ينتج عنه من تمزيق للدول والمجتمعات، مما يرتب علينا جميعًا التفكير والعمل لتغيير الواقع ومعطياته ومحاولة الحيلولة دون حصول نتائجه الكارثية على الأمة وشعوبها.
إن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عالمنا العربي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، والأنظمة السياسية تخدم إن شاءت أم أبت الأجندة الأمريكية في المنطقة ومنخرطة في المشروع الاستعماري الصهيوني الرامي إلى تدمير وتمزيق وتقسيم الوطن العربي وإضعاف الشعوب ودورها في النهضة والتقدم والمحافظة على إرثها الثقافي العربي الإسلامي، ولعل ما يجري من تحضير وتشاور لتنفيذ مشروع ما يسمى بصفقة القرن وتجهيز تحالف دولي جديد، بتمويل ودعم من بعض الدول العربية لصراع مع إيران، لدليل واضح على حالة الوهن في الجسد العربي والإسلامي والسقوط في اختبار تحديد أولويات الدول والشعوب العربية، وتكريسًا للتبعية وغياب العقل والضمير ومصالح الشعوب والأمة عن الساسة في بعض بلادنا العربية، في الوقت الذي تعمل فيه بعض الدول الإقليمية على تحقيق مشاريعها القومية الخاصة ومنها تركيا، حيث تسعى تركيا اليوم من خلال تخطيط وتنفيذ وعمل مستمر بالرغم من تقاطع وتعارض المصالح مع دول إقليمية ودولية، لتعيد للعالم قوة ونفوذ دولة عثمانية جديدة، والحال كذلك في إيران والتي تسعى لعودة أمجاد فارس والإمبراطورية الفارسية القديمة بحلة ومواصفات جديدة تعتمد في ذلك على إرث التاريخ الفارسي لبناء قوة لحماية دولتها وامتداد نفوذها إلى المنطقة والعالم.
رغم أن الصراع العربي الصهيوني في المنطقة وتحدياته وأثاره على الدول العربية والطموحات الصهيونية التوسعية غير المشروعة يمثل الأولوية في عقيدة الشعوب العربية والإسلامية بسبب المكانة التي تتمتع بها فلسطين: الأرض والمقدسات والتاريخ في الوجدان العربي الإسلامي، فمن الضروري حل لهذه القضية المركزية والمحافظة على المقدسات الإسلامية فيها وتقرير مصير هذا الشعب الصابر والصامد بشكل عادل كأولوية بين القضايا الإقليمية، فالمشكلة مع إسرائيل تمس كرامة وعقيدة الإنسان العربي المسلم وتمثل التهديد الحقيقي للأمة، ولكن بالرغم من الدعم الغربي لهذا الكيان الغاصب، يمكن معالجة هذا الوجود الطارئ عندما تتوفر الإرادة والعمل والوحدة والتوافق في تحديد الأهداف وترتيب أولوياتنا، فالمشكلة المترتبة على وجود كيان صهيوني غير شرعي في المنطقة بالرغم من كونها حديثة إلا أنها تمثل أولوية الأمة، ولكن تاريخ تركيا وإيران في المنطقة يستند إلى عمق في التاريخ مع عدم وجود أي دليل على رغبة لتركيا وإيران حصول صراع في المنطقة وخاصة مع جيرانها العرب، فهي تسعى لتحقيق مصالحها وأمنها القومي وبناء قوتها الذاتية والذي بالتأكيد يتعارض مع حالة التوازن الاستراتيجي في المنطقة والتي تمثل إسرائيل فيها القوة المسيطرة بقبول ضمني من بعض الدول العربية، ومن هنا أصبح من الضروري التفكير في بناء نظام عربي إقليمي كمشروع جديد في المنطقة ينظم العلاقات العربية على المستوى الإقليمي يأخذ بالاعتبار مصالح الأمة وشعوبها، ويعيد لهذه الأمة حضورها وتاريخها ومجدها الغابر، مع ضرورة التعامل مع تركيا وإيران كبلدين مسلمين على أساس حسن الجوار وتبادل المصالح المشتركة.
أمة القيادة والريادة والعزة ما بالها اليوم تعيش كالأيتام على موائد اللئام وعلى هامش التأثير والمواكبة والقرار، ما الذي أصابها حتى أصبحت توصف بأقبح الأوصاف لانزلاقها في متاهات المصالح الدولية، فقد سبق في وصفها أبو الطيب المتنبي فقال: ( يا أمة ضحكت من جهلها الأمم )، لقد آن لها أن تستفيق من غفوتها، يقول الله سبحانه وتعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103صدق الله العظيم.
حمى الله الأمة