الكاتب: د. رحيل محمد غرايبة
القول بمدنية الدولة في الفكر الإسلامي، وفي فلسفة تعامل الإسلام مع الشأن السياسي، ليس استجابة لمقتضيات المرحلة، وليس نوعاً من البراغماتية أو الانتهازية السياسية، ولا يجوز أن يكون الأمر كذلك، والقول بهذا المفهوم من باب الاستجابة للمرحلة السياسية هو وليد جهل مركب بمضمون المدنية من جهة، وبمضمون الإسلام من جهة أخرى، وبمعنى أكثر وضوحاً وجلاءً فإن مفهوم الدولة منذ نشأتها كان قائماً على المضامين المدنية، من خلال إرساء المعايير التالية:
المعيار الأول المتمثل بنفي سلطة رجال الدين منذ لحظة البدء، فليس هناك رجال دين في الإسلام، وليس هناك طبقة دينية، وليس هناك سدنة يتوارثون المعاني الدينية والأسرار الربانية، وليس هناك تراتبية دينية بحسب ما هو موجود في الأديان الأخرى، فالمسلمون جميعاً سواء، يتعاونون ف ي العلم والفقه تعاوناً قائماً على البذل والاجتهاد في كل مناحي الحياة، وهناك متخصصون في فقه المعاملات، وهناك متخصصون في علم المواريث، وهناك متخصصون في علوم أخرى على السوية نفسها من حيث خدمتها للحياة والناس، سواء على مستوى الطب أو الفلك أو الهندسة، ولا فرق بين عالم وآخر من حيث المرتبة الدينية، فكله يجري في تحقيق سعادة الإنسان وتحقيق صلاحه، ولا يستحق أحد مرتبة من مراتب السلطة على الآخر، والسلطة السياسية لمجموع الأمة والمجموع العقلاء الراشدين المجتمعين في بقعة معينة، ومن هنا فإن أبو بكر أصبح خليفة من خلال بيعة المسلمين له وليس لأي صفة أو مرتبة دينية، ولذلك فقد أعلن بوضوح في خطبته السياسية الأولى: (لقد وليت عليكم ولست بخيركم) فهو لم يولّ نفسه ولم يفرض نفسه بقوة السيف ولا بقوة الدين، وإنما عن طريق بيعة الرضا والاختيار.
المعيار الثاني: معيار المواطنة كان عاماً لكل سكان الدولة الناشئة، ولم يكن قائماً على الدين أو العرق أو اللون، بحيث يكون هذا الإطار مستوعباً للتعددية الدينية بشكل أساسي، وهذا ما نصت عليه (وثيقة المدينة) التي شكلت أول محاولة تدوين دستوري في التاريخ.
المعيار الثالث المتمثل بإرساء سلطة الشعب في اختيار الحاكم ومراقبته، حيث قال أبو بكر : «إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»، وهذا ما أكده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما قال: «أيها الناس إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني».
هذا الكلام لا يمثل مكرمة أو تنازلاً من أبي بكر وعمر، بقدر ما يمثل معياراً مهماً من معايير الدولة الناشئة، وسمة جديدة من سمات السلطة.
أما الأمر الأكثر وضوحاً فهو أن (محمد النبي) المؤسس الأول للدولة في الإسلام سمّاها (المدينة)، وهذه تسمية ليست عبثية، فقد أراد أن ينقل العرب من منطق الخضوع للقبيلة، ومن منطق الانحياز إلى الأصول القومية إلى منطق الخضوع للقانون العام ومنطق الانحياز إلى الدولة المدنية المتحضرة، التي يتساوى فيها المواطنون أمام القانون، ويتساوى فيها العربي والحبشي والرومي والفارسي، ويتساوى فيها المسلم وغير المسلم أمام عدالة القانون.
ومن هنا فإن القول بمدنية الدولة في الفكر السياسي الإسلامي، لا يقوم على الاستجابة لمقتضيات اللحظة الراهنة، وليس استجابة لاستحقاق التغيرات السياسية، وإنما هي استجابة لمقتضيات الفهم الأصيل لقواعد التجمع وقواعد التحضر المدني المرتكز على معايير العدالة، والمساواة الإنسانية في أصل الخلقة، وفي الكرامة الآدمية التي قررها القرآن بوضوح، وأمام الخطاب التكليفي العام، وقد جاء الخطاب القرآني عاماً لكل بني البشر «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ «.
ولذلك فإن المعنى المدني أصيل وقديم بجوهره الحقيقي في فكرة التجمع البشري في نظرة الإسلام وفلسفته، وليس تقليداً لمعنى غربي أو شرقي، وفي الوقت نفسه فإن الارتكاز على هذا المعنى لا يمنع تطويراً في الشكل والأدوات والوسائل التي تحقق المعنى الجوهري للفكرة بحسب تطور الخبرة البشرية دون اخلال بالقواعد والمبادىء العامة.
هذا التوضيح جاء في سياق التأصيل الفقهي السليم، والتنظير الفكري القويم المستمد من قواعد الإسلام ومقاصد التشريع؛ الذي تم توضيحه قبل سنوات طويلة لهذا المصطلح، وليس في سياق التسابق والاندلاق السياسي على الترحيب بهذا المصطلح بعد التغيرات الأخيرة، حتى لا يتم وضع كل من يقول بهذا المصطلح في (خرج) الانتهازية غير المحمودة أو التقليد الأعمى المتأخر.
عن الدستور