بقلم: الدكتور عمر مقدادي
يشير مفهوم (الشرق الأوسط الجديد) إلى أن قوة ما إقليمية أو عالمية تعيد تشكيل المنطقة، بما يتوافق مع مصالحها وطموحاتها التي لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الدول والشعوب في المنطقة ذاتها، ولعل أول إشارة لهذا المشروع كانت عندما نشر شمعون بيريز رئيس دولة إسرائيل ورئيس وزرائها الأسبق كتابه عن (الشرق الأوسط الجديد) خلال التسعينات من القرن الماضي، والتي كشفت التوجهات الجديدة في المنطقة العربية والتي تقود إلى الاعتقاد بأن الحقبة الإسرائيلية قد حانت، أما المؤشر الثاني على مفهوم الشرق الأوسط الجديد كانت عندما وردت في قاموس وزارة الخارجية الأميركية عبارة (الشرق الأوسط الكبير) والذي يعني في العالم العربي المدى الذي وصلت إليه الولايات المتحدة في النفوذ والتأثير في هذا الإقليم ، حيث كانت الحرب الباردة قد انتهت، وتوافق العالم على أن عصر القطبية الثنائية قد انتهى ولم يبقَ إلا قطب واحد مؤثر في العالم، أما المؤشر الثالث فهو من الولايات المتحدة الأمريكية حيث رالف بيترز الذي وضع أسس الشرق الأوسط الجديد على الطريقة الأمريكية في كتابه الشهير (حدود الدم)، ويرى البعض أن مشروع بيترز سيرى النور تدريجيًا بعد قرن من اتفاقية سايكس - بيكو البريطانية الفرنسية .
تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إعادة ترسيم منطقة الشرق الأوسط لأهداف اقتصادية وإستراتيجية وعسكرية، والتي هي جزء من برنامج طويل الأمد للسياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وقد تم بموجبها تحويل الشرق الأوسط من قبل قوى خارجية إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في حالة شن هجمات عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد إيران أو سوريا، كما يمكن أن يؤدي قيام حرب أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط وإلى إعادة ترسيم الحدود بما يخدم المصالح الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية، ولا ننسى أن الشرق الأوسط نفسه صناعة بريطانية - فرنسية، وحتى هذه اللحظة مازال الشرق الأوسط على حاله كما رسمه المستعمر الغربي، وكل ما يجري فيه مجرد تحسينات أو تعديلات أمريكية تناسب المستعمر الجديد بلاعبين جدد على رأسهم إيران، ويشير مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق بريجنسكي في كتاب رقعة الشطرنج الكبرى أن كلا من تركيا وإيران، يحتمل أن تكونا عرضة لصراعات عرقية داخلية، وأنه إذا تم زعزعة الاستقرار في أي منهما أو كليهما، فإن المشاكل الداخلية في المنطقة لن يصبح بالإمكان السيطرة عليها، ويبدو أن التقسيم سيكون أفضل وسيلة لتحقيق هذا، فهناك اعتقاد في البيت الأبيض بأن الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط ستفيد في إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد كما هو حال البلقان، ولعل كلمة البلقان في ذاكرة الشعوب الأوروبية تستدعي في الذهن صورة الصراعات العرقية والتنافس بين القوى العظمى، حيث البلقان مكتظ بالسكان ومتنوع عرقيًا وعقديًا بصورة كبيرة، وتعد تلك المنطقة من أكثر المناطق التي تشهد حالة من عدم الاستقرار على مستوى العالم، وتعتبر مناطق جنوب شرق أوروبا، وآسيا الوسطى، وباكستان وكشمير وغرب الهند والخليج العربي والشرق الأوسط، ذات أهمية جيوسياسية خاصة، وذلك من ناحية الأمن والطموحات التاريخية لجيرانها: (روسيا وتركيا وإيران)، بالإضافة إلى الصين التي تظهر اهتمامًا متزايدًا بتلك المنطقة، بينما تعتبر الأهمية الاقتصادية للمنطقة هي الأكثر على الإطلاق، فهي تحتوي على احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي والنفط، وفي ظل التزايد المستمر لاستهلاك الطاقة في العالم، فإن الوصول إلى تلك الموارد والثروات يعتبر هدفًا يثير الطموحات القومية والتطلعات الاستعمارية.
ويمكن القول أن ما نشهده حالياً ليس أقل من بروز ملامح جديدة لشرق أوسط جديد بمفهومه الواسع، ليس من السهل إدراك اتجاهاته، بيد أنه من الممكن الإشارة إلى عاملين واضحين لهما الأثر الحاسم في الواقع الراهن:
أولا:- انحسار دور ونفوذ القوى الغربية التي رسمت منذ بدايات القرن العشرين شكل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وهي القوى الأوروبية: (بريطانيا وفرنسا ) ثم الولايات المتحدة الأميركية، التي جعلت لنفسها الدور الرئيسي منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يبدو أن القوى الغربية التي أخفقت خلال حروبها الشرق أوسطية في العقدين الأخيرين قادرة على تقديم مشروع استراتيجي ناجع للمنطقة، بل إن الاتجاه الغالب حالياً على القيادات الحاكمة فيها هو التركيز على الشؤون الاقتصادية والداخلية، ومن المفارقات المثيرة هنا أن روسيا التي أُخرجت عنوة من إدارة المسألة الشرقية بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت اليوم اللاعب الدولي الأول في المنطقة بحضورها العسكري المباشر ورؤيتها الإستراتيجية المنسجمة لنظام إقليمي أورو آسيوي الذي يشمل بالإضافة إلى حزامها في شرق أوروبا، بلدان البلقان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، أي العالم العثماني القديم، الذي كان في الماضي هدفاً ثابتاً لأطماع القياصرة الروس، وفي الوقت الذي تنافس الصين المشروع الروسي المستند للقوة العسكرية بمشروعها العولمة البديلة.
ثانياً:- شهدت منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بتأثير ضعف وانهيار لمعالم الدولة الوطنية المركزية بعد ما يسمى بالربيع العربي، ويمكن ملاحظة بروز أنماط جديدة من النماذج السياسية لا يبدو أنها حالات مؤقتة عابرة، ومن مؤشرات هذه الحالة السياسية ثلاث ظواهر هامة تحتاج للمتابعة والتحليل:
1- مناطق النفوذ الدولية والإقليمية التي تزايدت بحكم التدخل الأجنبي ومنها أمريكا وروسيا وتركيا وإيران، وأصبحت خارج سيادة الأنظمة الحاكمة ، كما هو الحالة في سوريا والعراق واليمن.
2- ضعف المؤسسات العسكرية المركزية وبروز مليشيات بديلة في سياق عسكرة العمل السياسي وتدويله، والنموذج اللبناني واليمني والعراقي أمثلة على ذلك.
3- إعادة تشكيل الهويات القبلية والطائفية والإثنية في مجالات إقليمية من خلال سياسات التصفية العنيفة، كما هو الحال في ليبيا واليمن وسوريا والعراق.
ليس من السهل وفق هذه المعطيات الرجوع لنموذج الدولة الوطنية السيادية، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية على الدول والشعوب في المنطقة، وحالة الاحتقان الشعبي الناتج عن ارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب وضعف الخدمات في بعض الدول، وعليه فإن الخشية متزايدة من تعميم النموذج السياسي البلقاني في المنطقة، وقادم الأيام سيكشف التطورات في هذا المجال.
حمى الله الوطن والأمة