يعدّ كتاب التكليف السامي لحكومة الدكتور عمر الرزاز القادمة والذي جاء على وقع احتجاجات شعبية أطاحت بحكومة الدكتور هاني الملقي محطة انطلاق جديدة، حيث تجلت الديمقراطية الوطنية في أبهى صورها وارتسمت كلوحة فسيفساء بجمالية وأصالة الحراك الوطني في مختلف مكوناته، فجاءت الاستجابة الملكية السامية تكريسًا لمبدأ المواطنة و تعبيرًا عن تلاحم القيادة مع الشعب في نموذج حضاري يفتح الطريق أمام الحوار الشامل، جاء كتاب التكليف السامي مختلفًا عن غيره من كتب التكليف السابقة ويتجلى هذا الاختلاف بتبني كتاب التكليف مطالب الشعب والمحتجين على السياسات الحكومية، ووضعها ضمن برنامج عمل غير تقليدي لا يحتمل من الرئيس المكلف وفريقه أي تقاعس عن تنفيذه ، فخطاب التكليف السامي جاء بمضامين هامه تشكل خارطة طريق أمام حكومة الرزاز و فريقه الوزاري القادم من الشباب، والذي نتوقع أن تغلب علية الصفة الاقتصادية من أجل النهوض بالاقتصاد الوطني و تحفيز طاقات و إبداعات الشباب وترشيق القطاع العام واستبدال مفهوم الجباية الضريبية بالعدالة الضريبية، فكتاب التكليف يتضمن في مضامينه عدة محاور:
1- عدم اللجوء إلى جيوب المواطنين لسد عجز الموازنات في كل عام، بل على الحكومة أن تكون (خلاّقة ضمن برنامج عمل محكم)، وعدم إصدار القرارات التي تؤثر على لقمة عيش المواطنين، وتساهم في تعميق حالة الركود الاقتصادي التي فرضتها سياسات وقرارات الحكومات السابقة.
2- إعادة النظر في التشريعات الناظمة للحياة السياسية، بما يعزز من دور الأحزاب ويمكنها من الوصول إلى مجلس النواب، وهو الأمر الذي يؤسس مستقبلاً في صيغة قانون انتخابي جديد لتشكيل أطر وأحزاب وكتل سياسية يمكن من خلالها تشكيل حكومات برلمانية تعمل وفق برامج واضحة ومحددة خاضعة لرقابة البرلمان والشعب.
3- ما ورد في كتاب التكليف السامي ينسجم مع مطالب الشعب والمحتجين على الإجراءات الاقتصادية لحكومة الدكتور هاني الملقي، فمن الواضح تمامًا بأن قانون ضريبة الدخل الجديد لن يمر دون حوار مكثف مع الأحزاب والنقابات والفعاليات المجتمعية لضمان عدالة ضريبية.
4- إن فتح باب الحوار الوطني واحترام الرأي والرأي الآخر والعمل المشترك بين المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأردنية للوصول إلى الحلول المناسبة هو المخرج الحقيقي من الأزمة ، والتي نتجت عن عدم الثقة بين الشعب والحكومة على مدار سنوات عديدة تعاقبت فيها إدارات أفقرت البلاد إلى أن أوصلتنا إلى دين عام يعادل ٣ أضعاف موازنة الدولة.
5- عدم اليأس من الواقع السياسي الخارجي المفروض على الأردن بسبب مواقفه المشرفة وعلى الأخص تجاه القضية الفلسطينية، كما فعلت حكومة الدكتور هاني الملقي التي حمّلت المواطن الأردني وحده كلفة الصمود في وجه هذا الواقع، فجلالته قال (الضغوطات التي يواجهها الأردن، يجب أن تكون حافزاً للارتقاء بنوعية الخدمات وليس عذرا لتراجعها).
6- يؤكد كتاب التكليف السامي على أهمية الخدمات التنموية في مجالات عديدة تعليمية أو صحية أو غيرها، كما جرت العادة، لكنه أجمل مطالب الشعب للحكومة:(إطلاق مشروع نهضة وطني شامل)، وهي مهمة تستلزم من الحكومة إشراك الشعب ومؤسسات المجتمع المدني بالقرار وبكل شفافية.
لقد كان كتاب التكليف موجهًا للسياسات الحكومية والطموح الشعبي، فلابد أن نجد حكومة قادرة على تنفيذ ما ورد في كتاب التكليف السامي، فتحقيقه أو حتى تحقيق نسبة منه كفيل بتجاوز الأردنيين لأزمتهم الاقتصادية وتعزيز عوامل الأمن في وطنهم وسط هذا المشهد الإقليمي القاتم، فما يجب أن نسعى إليه الآن هو نهج إصلاحي في المجالات كافة، بحيث تعتمد الحكومة على مبدأ اقتصاد الموارد و تعزيز التشاركية في جميع القطاعات المنتجة: التجارية والصناعية والزراعية والمهنية على مستوى الوطن، و تفويت الفرصة على المتربصين بنا و الشامتين خارجيًا وداخليًا، وتوحيد الصف الداخلي بثوابته الوطنية الحرة الأصيلة، فالإضراب كان وسيلة عبرت عن رفض شعبي لإسقاط نهج اقتصادي حكومي وهنا نؤكد أن الحصاد الحقيقي للمشهد العام يكمن بتحقيق الغاية المثلى التي نسعى إليها وهي النهضة الوطنية الشاملة كما ورد في كتاب التكليف خلال عمر الحكومة القادمة.
يمر الأردن بمرحلة خطيرة تبعث على القلق على الصعيد الإقليمي وما يسمى صفقة القرن والترتيبات التي ترافقها مما يتطلب ترتيب الوضع الداخلي وتعزيز الأمن المجتمعي، وهذا يستلزم اتخاذ قرارات تضع نهاية لكل الاختلالات التي سببت حالة الاحتقان العام، وخروج تلك الحشود التي نزلت إلى الشارع خلال الأيام الماضية ولا زالت مستمرة في ذلك، مما يؤكد الحاجة إلى الحكمة وحسن المعالجة وإدارة هذه الأزمة بصبر وثبات تفادياً لما هو ابعد من ذلك، فالشباب في محافظات المملكة خرجت احتجاجًا على سياسات الحكومة ومنها الجباية الجائرة التي أخذت تتلاعب بقوت المواطن ومقدراته ومنها مشروع قانون ضريبة الدخل، وهي تمثل رفض الشارع الأردني للفريق الحكومي السابق، الذي عمل على إضعاف الوطن ومؤسساته، وتهميش كيانه السياسي وإدارته، وتهميش البرلمان، وإسقاط الولاية العامة عن الحكومة، وإسقاط الدور الرقابي لمجلس الأمة، خدمة للمشاريع الدولية بآلياتها المختلفة والتي لا تصب في مصلحة المواطن والوطن، فنحن بحاجة إلى تبني سياسات اقتصادية تنموية في مختلف القطاعات تخرج الاقتصاد الأردني من الحاجة إلى الجباية والسياسات التي عصفت باقتصادنا وأوصلتنا إلى أضعف حال، وضرورة تحصين المال العام، وإخضاع كافة مؤسسات الدولة بلا استثناء إلى رقابة مجلس الأمة وديوان المحاسبة، ومعالجة نسبة البطالة المرتفعة في صفوف الشباب الأردني، وتحصين مؤسسة الضمان الاجتماعي، وتكريس مفهوم دولة المؤسسات وسيادة القانون، فالأيام القليلة الماضية كشفت أن قدرة الأردنيين على التحمل لها حدود، وأن القوانين والقرارات الحكومية إذا لم تنسجم مع شرعية شعبية فلا قيمة لها حتى لو مرت هذه القوانين بكافة مراحلها القانونية والدستورية، فقد انتهت مرحلة الحكومات المتفردة في الحكم إلى غير رجعة، ونجاح أي حكومة يكمن من الآن فصاعدًا في قدرتها على الانفتاح والحوار وشرح رسائلها للشعب الأردني بشفافية وكفاءة، فهل برنامج دولة الدكتور الرزاز ينسجم مع هذه الإشارات والمضامين في التوجيه الملكي وفق السياق الوطني والإقليمي، وهل سيعمل على إنفاذها، هذا ما ستجيب عليه الأيام والأشهر القادمة.
حمى الله الوطن في ظل القيادة الهاشمية الحكيمة.
د. عمر مقدادي