لم يكن يخطر ببالي ان رؤساء الحكومات يمكن ان يكونوا معلنين او مروجي منتجات، فحينما شاهدت دولة الرئيس يجلس بمنتهى الهدوء والوقار، بدا وكأنه شخصية مستوحاه من اعماق التاريخ، أعطى هدوءه الانطباع العميق بأن لديه قناعة وثقة كبيرة بما يريد قوله، بعد استيعاب مايجري تبين لي انه يروجلسلعةً سماها الأولويات كبداية مشروع للنهضة، في هذه اللحظة دار في خلدي ان الرئيس كمن يقوم بدعاية لمنتج من المستحيل ترويجه ، ولكن لماذا؟
فحينما أتفحص الفئات المستهدفة بهذه الأولويات وهي حسب الرئيس هم: الفقراء، الطبقة الوسطى، القطاع الخاص وتحفيزه، خلق فرص عمل،
لنبدأ بالفقراء (سنحميهم ونحافظ على كرامتهم) والكلام مقتبس من حديث الرئيس، هل تم تحديد جغرافية الفقر من أين تبدأ؟ واين تنتهي؟ حدودها الفاصلة بين قاع الارض وسطحها، متى يقال عن فلان فقير؟ ومتى يخرج من تلك الدائرة؟ طبعاً ذلك كله في إطار التخمينات، تختلف حسبالمزاج السياسي والشعبوي لأي حكومة، حيث هم الوقود الدائم، والمادة الخصبة، التي لا تفتأ تقدم للحكومات المتعاقبة الذخيرة الوافية من المفردات والمشاعر الجياشة بخطاباتها اليومية، ولكن الجميع يعلم ان هذه الفئة مستمرة في التضخم كل يوم، وهي تستقبل في كل لحظةوافدينجدد، ولن تفلح جميع الساءات (سنعمل، سنبني....) التي سبقت الكلمات التي قيلت، ولكن حينما تنجح الحكومات في ترسيم الحدود الجغرافية للفقر، اعتقد انها تكون قد قطعت نصف الشوط ومن هناك تبدأ الحلول.
الطبقة الوسطى (بدنا نحصنها) مقتبس، رغم محاولاتي في تفكيك هذا المصطلح، فإني اعترف بالفشل، فإذا كان ما يتم هو تحصين، فإن المعنى مختلف بالتأكيد، فالمشروع المعدل لقانون الضريبة، والذي سيرفع نسبة الاقتطاعات منها، مما سيفاقم اعبائها ويجعلها ترزح امام خيارينلا ثالث لهما، اما الانزياح أسفل نحو طبقة الفقراء او الهجرة، تاركةً الجمل بما حمل للتخلص من الأحمال الإضافية، وربما إلقائها الى غير رجعة، اذا كان هذا تحصين فهو معناً جديد، اما قانون الجرائم الالكترونية فهو سيستهدف هذه الفئة بشكل اكبر لانها المنتجة الحقيقيةللأفكار وطموحات الامم، لأنها الوسطى والتي يمكنها الرؤية بوضوح للطبقتين المحيطتين بها، اعني الأغنياء والفقراء، اذا كان هذا تحصين فهذا معنى جديد ايضاً، ولفشلي في تحديد المعنى المقصود سأترك ذلك لكم.
القطاع الخاص (بدنا نحفزه للاستثمار والإنتاج وخلق فرص عمل) مقتبس لا ادري كيف، لكن دعونا نهذي بالماضي كما هو دأبنا، فالفكرة ان القطاع الخاص بشقه الصناعي، يعمل في بيئة شديدة التعقيد، فمدخلاته في جلها تجعله خارج اي مقدرة على المنافسة، فلا البيئة تساعده، ولا الدولة التي تسخطه بالضرائب، وأسعار المحروقات، واتفاقيات التجارة الحرة التي تجعله في العراء بدون اي حماية من بكتيريا الدخلاء الرخيصة، ادى به ذلك الى التحول هو الاخر الى وسيط يستجلب القطع المفككة ويعيد تركيبها على انها أردنية، مع قيمة مضافة شديدة الضآلة للسوق الاردنية، كل ذلك للتحايل على كلفة الانتاج العالية، وهنا تبدو عميلة الفصل بين التجاري والصناعي شديدة الصعوبة ان لم تكن مستحيلة.
وهنا ينتابني سؤال مهم ومؤلم هل الدولة التي لم تستطع الاستفادة من تعطل آليات الانتاج في العديد من دول المنطقة المحيطة بها، لتضاعف إنتاجها الصناعي بمقدار تعطل آليات الانتاج هناك، بقادرة وقت عودة تلك الدول الى عافيتها على تحسين حالة الصناعة لديها؟ اعتقد الإجابة في قلب السؤال، لكني ارى ان التحفيز الأهم لهذا القطاع هو كف يد الدولة وزبائنها عنه.
لن اتحدث هنا عن التشغيل وفرص العمل وهي حسب كلام الرئيس بآلاف، فالتاريخ الماضي يستطيع ان يبوح بأضعاف هذه الأرقام التي قيلت، وبقيت حبيسة التمنيات (ياما حكوا عباب هالدكان ) تكفي لآجل ذلك.
أما خدمة الوطن ومقارنتها بخدمة العلم، فإن المبررات التي سيقت لإلغاء خدمة العلم لم تتغير، ان لم تكن اسواء مما كانت، وهي عدم مقدرة الدولة على تغطية تكاليف هذا المجهود، فالدولة الان تنوء بأعباء كبيرة من الديون والعجز في الميزانية فما الذي تغير، اما اذا أراد دولته (قيم الانضباط والجدية والوطنية ومهارات العمل) مقتبس، فهل تكفي بضعة اشهر لفعل ذلك، وهل دولته يشكك بهذه المفاهيم لدى الجيل، وهو الذي اشرف على اهم وزارة يمكن ان تقوم بهذا العمل، خلال المراحل الحقيقية لصقل الشخصية، اذا كان كذلك فهو ينسف مجهوده الذي اعتبرهمهم وقيم جدا، وكان علامة فارقة في مسيرة الرجل وليته بقي هناك.
إساءات كثيرة سمعتها في هذه المادة الدعائية أردت أن أكمل الحديث، لكن أصابني الضجر، وربما القهر، والإحساس العميق أن الاْردن بات في خطر، ولكن الجملة الوحيدة التي بدأت تنفجر بالأعماق، دولة الرئيس كفاك استخفافاً بِنَا ، ارحل وشكراً لك.