ارتفعت أعداد المسؤولين الأمريكيين، الذين يطالبون بإعادة النظر في علاقات بلادهم بالمملكة السعودية، وهددوا كعادتهم بأن تقوم واشنطن، باتخاذ إجراءات عقابية صارمة، فيما لو تم إثبات ضلوعها بحادثة اختفاء الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" على الأقل، أمام مسألة ضرورة استمرار ممارسة الإيهام، بشأن توضيح صورة الولايات المتحدة بأنها دولة إنسانية، أو للاحتراز أمام ضغوط دوليّة أخرى.
وكان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قد حسم أمره - بعد تأخير ملحوظ- باتجاه الضغط على الجانب السعودي، بعد استلامه من الجانب التركي علامات تبدو وكأنها حقيقيّة، وذلك من أجل كشف الحقيقة، من خلال حثّه على التعاون بشأن التحقيقات حول حادثة الاختفاء، حيث قال: ربما يكون السعوديون وراء اختفاء "خاشقجي"، وإذا ثبت ذلك ستُلحق بهم الولايات المتحدة عقاباً شديداً.
لكن، وبالرغم من ذلك، فإن الأمريكيين وعلى رأسهم "ترامب" لن يكون بوسعهم ولا بأي حال، اللجوء إلى تنفيذ تهديداتهم هذه، ليس عن ضعفٍ في السياسة، أو محاباةً للمملكة، وإنما حفاظاً على مصالح بلادهم، وخاصة المتعلقة بدولة بحجم السعودية، على أساس – كما يبدو للبعض- أن الإعلانات الأمريكية وإن خرجت شفاهةً، كانت ترمي إلى حشو المرحلة بما يتلاءم مع تلك المصلحة.
إن الولايات المتحدة، لها تاريخ عريض، في فرض الإجراءات والعقوبات على الدول والمنظومات الدولية، وسواء على نحو عدائي أو التي تُخالفها جزئياً أو كليّاً، وسواء كان سياسياً أو اقتصاديا أو ثقافياً، وهي بالضرورة تتم ممارستها بموازين وقياسات محددة، باتجاه كل دولة أو مؤسسة، وتبعاً لحجم الاختلاف معها والحاجة إليها.
فمنذ أن وضعت نفسها كقوّة واحدة في العالم، كان يُعلن الرؤساء الأمريكيين واحداً تلو الآخر "جيمي كارتر، رونالد ريغان، بيل كلينتون، جورج بوش الأب، الابن، باراك أوباما، دونالد ترامب"، تحدثوا عن إجراءات عقابية على مستوى العالم، وقاموا بتطبيقها بالفعل، وبغض النظر عن شرعيتها، أو التي تتم خارج نطاق الأمم المتحدة، باعتبارها تسلّطيّة وغير إنسانية، وهذه العقوبات كانت ما بين اللّين والشدّة، وما بين المرحلية والمستمرّة، بما فيها الموجّهة ضد إسرائيل، وفي ضوء اعتبارها شريكاً طبيعياً للولايات المتحدة.
وقد كان أعلن الرئيس الأمريكي "جورج بوش" أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي أنداك "إسحق شامير" عن وقف الضمانات الأمريكية لإسرائيل بقيمة عشرة مليارات دولار، إلى حين موافقته على المشاركة في مؤتمر مدريد 1991، وفي خطوة أشد بقليل، أظهرت إدارة "بوش" أوائل التسعينات، معاداةً صريحةً لإسرائيل، تمثّلت في سلسلة إجراءات "شبه عقابية"، لاتهامها بنقل تكنولوجيا صواريخ باتريوت الأمريكية إلى الصين.
وإن وجُدت بعض الأصداء حينذاك لتلك العقوبات السابقة، إلاً أن عقوبات الولايات المتحدة كانت غاية في الحزم والشدّة، باتجاه دول وكيانات أخرى مختلفة، باعتبارها تمثل خطراً على مصالحها، أو لا تتفق وسياساتها، مثل التي تمّ فرضها، على - أفغانستان، إيران، كوريا الشمالية، الجمهورية الليبية، العراق، سوريا، السلطة الفلسطينية، وغيرها من الدول والمؤسسات، حيث كانت لها أصداء أعمق بكثير، سيما وأن العديد من تلك الدول انهارت كلياً أو جزئياً، أو هي في الطريق إلى الانهيار.
على أي حال، فإن "نرامب" وإذا كان على موعد بشأن فعل شيء ما، ضد السعودية، فيما لو استلمت الأخيرة الإدانة بكاملها، فقد يكون هذا الشيء – على الأرجح- المزيد من الابتزاز، باعتباره فرصة عميقة غير قابلة للتكرار، وفي ظل إيضاحه صراحةً، بأن أمريكا ستُعاقب نفسها، إذا أوقفت مبيعاتها العسكرية إلى الرياض بسبب "خاشقجي"، ويأتي قوله على الأقل، بسبب مخاوفه من انتقال المليارات السعودية إلى روسيا أو الصين، وهي المليارات التي يحرص على نقلها إلى بلاده