أصبحت كلمة النزاهة ومشتقاتها من المفردات الشائعة جدا في هذا الزمان،
وتسيل على ألسنة الناس الذين يتكلمون بما يعلمون، أو يهرفون بما لا يعرفون، أو
يعرفون ويحرفون، أو يعرفون ويخادعون....إلخ، فهذا رجل نزيه، لكنه متهم، وهذا آخرُ
مدان جهارا نهارا، وعلى رؤوس الأشهاد، لكن ثبتت نزاهته، واختلط الحابل بالنابل،
والوهم بالحقيقة، والصدق بالكذب، فحارَ دليلنا، واضطربت عقولنا، ولم نعد ندري : ما
معنى النزاهة ؟ وما صفات النزيه ؟ فاتهمنا أنفسنا بقصور الأفهام، وقلنا : لنعدْ
إلى مفهوم النزاهة في التراث العربي الإسلامي، ومعاجم اللغة، لعلنا نعلم علم
اليقين : أفي يقظة نحن أم في منام ؟؟!
ورد لفظ ( نزه) ومشتقاتها في ( صحاح الجوهري، تحقيق أحمد عطار، دار
العلم للملايين، بيروت، ط3، 1986، ج6، ص2252 وما بعدها ) ودار معناه حول التباعد،
فالتنزه هو التباعد عن الأرياف . ومنه قيل : فلان يتنزّه عن الأقذار، وينزّه نفسه
عنها. أي يباعدها عنها. والنزاهة هي البعد عن السوء . يقال : إن فلانا لنزيه كريم
إذا كان بعيدا عن اللؤم، وهو نزيه الخلق. وهذا مكان نزيه. أي خلاء بعيد عن الناس
ليس فيه أحد .
وورد في ( لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط3، 1994، ج13،
ص548 وما بعدها ) قال عمر رضي الله عنه : الجابية أرض نزِهة، أي بعيدة عن الوباء.
وقالت عائشة رضي الله عنها : صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فرخّص فيه،
فتنزّه عنه قوم. أي تركوه وأبعدوا عنه، ولم يعملوا بالرخصة. ويقال : رجل نزْه
الخلق ونزِه. أي عفيف متكرم ولا يخالط البيوت. والجمع نزهاء ونزهون ونِزاه. ويقال
: نزّه نفسه عن القبيح. أي نحّاها. والنزاهة : البعد عن السوء. وإن فلانا لنزيه :
إذا كان بعيدا عن اللؤم. وفلان يتنزّه عن ملائم الأخلاق. أي يترفع عما يُذم منها.
والتنزيه : تسبيح الله عز وجل، وإبعاده عما يقول المشركون، وتقديسه عن الأنداد
والأشباه. ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه : الإيمان نزهٌ. أي بعيد عن المعاصي.
وورد في ( المعجم الوسيط، دار الأمواج، بيروت، ط2، 1990، ص915 وما
بعدها ) نزه المكان نزاهة ونزاهية. أي بعد عن فساد الهواء. ونزه فلان. أي تباعد عن
كل مكروه، فهو نزِه ونزيه، وهي نزِهة ونزيهة. ونزهه عن الشيء. أي أبعده عنه. وتنزه
عن الشيء. أي بعد عنه وتصوّن. يقال : هو يتنزه عن الرذائل. والنزاهة هي البعد عن
السوء وترك الشبهات.
هذا مجمل ما ورد عن النزاهة في ثلاثة معاجم عبر عشرة قرون، نقلناه
بتصرف قليل، ولو استجمعنا شتات هذه المعاني الواردة في هذه المعاجم الشهيرة، فإننا
نخلص إلى نتائج يُؤمل أن تنقذنا من دوّامة المتاهات، وتباين الأحكام والتخرصات
والتخريجات.
وبالاستناد إلى تلك النتائج يمكن أن نرسم صورة إجمالية للرجل النزيه،
أو المسؤول الذي تثبت نزاهته :
ــ إنه كبير القدر رفيع الشأن، يباعد نفسه عن المساوئ والمفاسد وذميم
الأخلاق، ويترفع عن الصغائر والدنايا، ويطهر لسانه عن فُحش القول، وسخف الكلام،
ويحرص على التحلي بكريم الخصال، والتزين بعظيم السجايا : إذا قال صدق، وإذا وعد
أوفى، وإذا اؤتمن على مسؤولية نهض بحقها، ورعى مصالحها، وضحى من أجلها، ودافع عن
أهلها .
ــ إنه يحصّن نفسه عن الحقد واللؤم والضغينة والظلم، يطبق القانون
بعدالة، يعزز الصادق المجدّ المخلص حتى لو لم يكن يعرفه، ويصدّ الفاسد العابث
المستبد حتى لو كان من حاشيته وزبانيته. يستدني الأكفياء النزهاء الأقوياء الأمناء
الذين يساعدونه في أداء مهمته والوفاء بأمانته، ويستبعد المنافقين المتلونين
كالحرباء، الماكرين الجبناء، الغادرين الخبثاء، الذين يزهّدون المخلصين الأسوياء
في وظيفتهم النبيلة، ويرمونهم ظلما بتهم ينضحونها من مستنقع دواخلهم الرذيلة .
ــ إنه ينزه نفسه ومجلسه عن كل هماز مشاء بنميم، ويصم أذنه عن كل ناعق
قد تسربل بمكاسب ومناصب لا يستحقها، انتهازي عطن الروح، زنيم المسلك، لا مكان
لمخافة الله في قلبه الأجوف، ولا ضمير يقظا يزجره عن خلقه المنحرف.
ــ إنه يخصص جزءا من وقته لمتابعة هموم وقضايا ومظلمات رعيته ممن
يعملون بصمت، ويعلون من شأن المؤسسة دون جلبة واستعراضات بهلوانية رخيصة؛ لأنهم
يؤمنون يقينا أن بناء الأوطان يكون بالعمل الجاد الصامت المخلص، وأن الانتماء
الحقيقي يتجلى بصدق العمل لا كذب القول.
ــ إنه يرتقي بنفسه إلى أعلى الدرجات في مكان سامٍ شريف عن ظلم أحد من
رعيته، ولا يتهاوى إلى أسفل الدركات إذا انتقده أحد بحق، أو شكا من ظلم، وبدلا من
أن يرفع الظلم عنه، يأمر المسؤول دونه أن يقعد لهذا المظلوم كل مرصد، ويتفرغ
للتجسس عليه، ويتصيد له أية شبهة خطأ في يقظته أو منامه أو حتى نواياه وأحلامه، ثم
يُجيّش اللجان والقانونيين المزيِّفين، وأصحاب المناصب والمصالح، والترقيات
الناجزة غير المستحقة أو المنظورة الموعودة، من الببغاوات عميان الضمائر لإصدار
الفتوى بأن تنصب للمظلوم المشانق، وكل خلية في جسم كل منهم تعلم أنه مظلوم مسربل
بنظافة الخلق، وأنهم ظالمون غارقون حتى الآذان في الخزي والعار وانعدام الضمير.
فما أقلّ الثمن !! ويا ويحهم لأنهم واهمون إن كانوا يظنون أنهم فعلوا فعلتهم
الدنيئة وسوف يسلمون. ألا يفقهون قوله تعالى : " والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " الأحزاب:58
يضج القلب بالهمّ، وينفث القلم الأسى، ونحن نرى انحدارنا، وتراقُص
البوصلة أمام نواظرنا، وتذبذب المنظومة الأخلاقية في أذهاننا، فيُتهم النزيه كذبا
وظلما، وتثبت نزاهة المدان حقا وعدلا .
ونطلب من يغطينا، فنبحث عن "صفية سعد زغلول" فنجدها في
الغابرين، ونستصرخ "كرمة العلي" فيردد الصدى صرخات " فتى حوران
النبيل " بالشكوى والأنين .
اللهم إنا ندعوك ونحن متوكلون غير متواكلين أن تلطف بنا، وترفع الظلم
عنا، فأنت أعلم بأحوالنا .