بقلم: د. اسعد عبد الرحمن
لا يمكن فهم ما يقر اليوم من قوانين في الكيان الصهيوني إلا كمحاولة، ربما بدون وعي، تمهد لحرب إقليمية ذات طابع ديني. ولعل قرار الرئيس الأمريكي (دونالد ترمب) بشأن اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني شجع إسرائيل على اتخاذ خطوات حكومية إسرائيلية على رأسها المخطط لبناء 300 ألف بؤرة استعمارية/ "استيطانية" جديدة في القدس فيما يطلق عليها "القدس الكبرى"، أعقبه مصادقة الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) على قانون يتطلب موافقة ثلثي أعضاء الكنيست على أي قرار بشأن تقسيم القدس، مستهدفا تعقيد أي انسحاب إسرائيلي من القدس الشرقية المحتلة مستقبلًا، علاوة على ضم مناطق إلى حدود ترسمها إسرائيل كما ترغب، وكذلك موافقة حزب "الليكود" الحاكم بالأغلبية الساحقة على مشروع قرار يقضي بضم جميع المستعمرات/ "المستوطنات" في الضفة الغربية والقدس، وفرض القانون الإسرائيلي على هذه "المستوطنات" وامتداداتها.
من المعلوم أن الكيان الصهيوني، على مدار العقود الطويلة الماضية، حاول إدارة الصراع وإطالة أمد الاحتلال في أراضي الضفة (بما فيها القدس الشرقية) عبر توظيف وهم استعداده لتسوية سياسية. بيد أن الوضع اليوم، في غياب الحل السياسي المقبول حتى لأشد الفلسطينيين اعتدالا، ربما يتحول إلى جبل بركان. فرئيس أركان الجيش الإسرائيلي (غادي آيزنكوت)، المعروف بلغة التهديد والوعيد للفلسطينيين، بعث رسالة تحذيرية مبطنة للقيادة الإسرائيلية، حين أوضح مؤخرا أن: "التصعيد الحالي مع الفلسطينيين يحمل طابعا دينيا لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي". وفي السياق، في مقال للكاتب الإسرائيلي (ران أدليست) كتب يقول: "شكرا يا دونالد. أخيرا، بفضلك، خرجت حرب دينية تديرها حكومة اليمين الديني القومي من الخزانة المقدسة. بفضلك، يا دونالد، يفهم الجميع بان الدين هو السبب الحقيقي لسياسة الحكومة وللحروب التي تنبع منها. إذ ما هو الصراع على المستوطنات، على القدس، وعلى "المبكى" ان لم يكن فريضة إلهية؟". وختم مقاله بالقول: "كان يفترض بنتنياهو أن يفهم بان كل تغيير في الوضع الراهن الديني في القدس هو صب وقود على الشعلة المتلظية على اي حال، ولعود الثقاب الديني إمكانية كامنة قد تضيء عدة شعلات". وفي إطار التشاؤم والتحذير المواكب، ومن خلال مقال بعنوان "إنها حرب دينية وترمب ونتنياهو يجروننا نحو الكارثة"، كتب وزير الداخلية الإسرائيلي الأسبق (عوزي برعام) يقول: "عندما سمعت تصريح ترمب لم أشعر بالسرور. لكن مشكلتنا ليست ترمب. مشكلتنا هي حكومة اسرائيل والطريقة التي تصفق فيها لتصريح ترمب. الخطر يكمن في الحكومة التي تصفق لتصريحات تحظى بتفسير خلاصي مسيحاني. إسرائيل يمكنها الازدهار فقط اذا فهم زعماؤها ومواطنوها أنه يجب فصل النزاع عن المعتقدات التي تؤدي الى حرب دينية واقامة دولة واحدة، التي رغما عنها ستكون دولة ابرتهايد. لم استطع، بناء على ذلك، أن أحتفل بهدية جاءت من اشخاص عديمي المسؤولية يمكن أن يجرونا جميعنا الى الكارثة". وفي الإطار ذاته، لفت الكاتب الإسرائيلي (نير حسون)، في مقالة نشرتها صحيفة هآرتس، إلى أن ما يحدث "قسم أبناء المدينة بين شعورين مختلفين، أحدهما النشوة والانتصار للإسرائيليين، والآخر اليأس والإحباط للمقدسيين. حالة الإحباط الفلسطيني قد يتحول إلى إحباط ديني"، محذراً من تحول "الذل السياسي في المدينة إلى ذل ديني ما يدفع المقدسيين إلى ردة فعل عنيفة تجاه الإسرائيليين". أما صحيفة "هآرتس" المعروفة باتجاهها الليبرالي اليساري، فكتبت تقول: "الآن، لن يستطيع أحد إيقاف اليمينيين الإسرائيليين الذين يهدفون إلى إعادة بناء الهيكل حتى لو كان ذلك على حساب حرب أبدية (دينية) مع العالم الإسلامي".
الإدارة الأمريكية الحالية، كما لم تفعل غيرها من الإدارات السابقة، هي من تسعى – بوعي أو بدون وعي - لإطلاق شرارة الحرب الدينية. فتصريحات المسؤولين الأمريكيين تكاد تعادل تصريحات اليمين المتطرف الحاكم في الكيان الصهيوني. فمثلا، سفيرة الولايات المتحدة في الامم المتحدة (نيكي هايلي) تتساءل: "هل يعقل ألا يكون (المبكى) تحت سيادة اسرائيل؟!!". أما (مايك بينس) نائب الرئيس (ترمب) فهو لوحده حكاية، إذ نجده يلعب دورا خطيرا في خلط الدين بالسياسة، فيقدم خطابا توراتيا يبرر دعم الإسرائيليين، وأن نشوء "دولة إسرائيل" تجسيد لنبوءة توراتية، حيث قال في خطابه في احتفالٍ بالذكرى السبعين لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، رقم 181: "هل لبلد أن تولد في يوم، ولأمة أن تولد في لحظة. من المستحيل عدم ملاحظة أنّ يد السماء تقود ناسها، تكتب تاريخهم في إعادة بناء هذا الشعب القديم على الأرض التي ولدوا عليها". كذلك الحال مع السفير الأمريكي في إسرائيل (ديفيد فريدمان) وهو يهودي صهيوني متطرف، عمل على مسألة الاستمرار فى حث (ترمب)، على الاعتراف بمدينة القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، حيث قال: "أتطلع للعمل من القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل"!!!
لقد بدأت الحركة الصهيونية قومية، إلا أنها – على امتداد الحقب الثلاث الماضية - لجأت إلى "استغلال" الديانة اليهودية لتشجيع اليهود على الانضمام إليها والهجرة إلى فلسطين، حين أدركت أنها غير قادرة على النجاح بدون التعويل على العنصر الديني حتى استحوذ اليوم على جل طرحها السياسي والفكري. وقد باتت الأحزاب الدينية الصهيونية والقومية المتطرفة تملك اليوم من القوة ما يخولها السيطرة على الحكومة والبرلمان الإسرائيليين وبالتالي المبادرة إلى/ وإنفاذ القرارات آنفة الذكر التي تزرع بذور حرب دينية حتمية.... طال الزمان أم قصر!