محمد خروب
كمن أَطلَقَ أو أُجبِرَ على إطلاق النار على رِجلَيه, هذا ما فعله سعد الحريري عندما خرَج على لبنان واللبنانيين, شاهراً «سيف» استقالته من موقع أُبعِد عنه لسنوات, ظنّ كثيرون انه خرج من السلطة نهائياً, بعد ان احرَق جسوره مع مختلف القوى والمكوِنات السياسية اللبنانية بأطيافها المذهبية والطائفية, وخصوصا في تحالفه مع الميليشياوي الأشد انعزالية ورفضاً لعروبة لبنان, الذي يُواصِل اغتنام اي فرصة تلوح للترويج لمشروعه الفيدرالي بنكهته الطائفية الكريهة, ونقصد سمير جعجع. وهو مَن أدار ظهره للحريري, عندما عقد صفقة «مِعراب» مع زعيم التيار الوطني الحر,الجنرال ميشال عون, لِيُكمِل الاخير مشواره الماراثوني نحو قصر بعبدا رئيساً في الثلاثين من تشرين الاول 2016فيما كانت «عَيْنا» جعجع تشخصان الى الكرسي ذاته, مُوهِما نفسه انه بات اقرب الى القصر الجمهوري من اي وقت مضى,سواء اكمل الجنرال دورته الاولى ام اضطر للمغادرة لأسباب صِحية.
الحريري لم يكن بعيداً عن الأحلام الهذيانية لجعجع, وبخاصة ان الإفلاس المالي.. أدركه (دع عنك الإفلاس السياسي) ما اوجَد لديه استعداداً لدعم وصول مُرشّح «حزب الله» الوحيد (عون) فوضع من فوره هدفا للخروج من حال الإفلاس التي تُطارِده, بِأمل جمع بعض الثروة, مع «حلم» البقاء الطويل في السراي الحكومي, أقلّه طوال عهد الجنرال عون, فأطلق مناصروه لتبرير»انبطاحِه» في ذلك الوقت اكذوبة تقول: انهم بتلك التضحية, إنما يقومون بعملية «ربط نِزاع» مع حزب الله.
أقل من عام بِشَهر, قضاه الحريري في السراي الحكومي,بلا اي نتائج او إنجازات سياسية او إجتماعية أو إقتصادية... تُذكَر, بل تدهورت احوال اللبنانيين المعيشية والخدمية وارتفعت الاسعار ونِسَبة التضخّم, في ظل التجميد الطويل للأجور وتزايد الفساد, فتبخّرت كل الوعود الخُلّبِية التي أطلقها الحريري وحلفاؤه,بل كاد هؤلاء(الحريري وجعجع ورموز التيار الإنعزالي) ان يُعطّلوا ويحولوا دون معركة تحرير جرود عرسال ورأس بعلبك من رجس داعش والنُصرة,بذريعة ان حزب الله والجيش السوري هما مَن خطط وحدّد موعد المعركة,لكن قيادة الجيش اللبناني وموقف رئيس الجمهورية.. الحاسم,حالا دون عرقلة خبيثة كهذه,فكان انجازا كبيرا وموصوفا للجيشين اللبناني والسوري, ما منح لبنان المزيد من الثقة والأمن والاستقرار.
واصَل تيار الحريري و»قوات» جعجع وحزب جنبلاط وبقايا «كتائب» آل الجميِّل, وغيرهم من الزعامات الإقطاعية السياسية والطائفية والمذهبية, من الذين فقدوا ادوارهم ونفوذهم, توتير الاجواء وافتعال الأزمات وخصوصا عند محاولة إنضاج قانون جديد للإنتخابات يضع حداً لقانون»السِتين» الذي أفرز طوال العمل به طبقة سياسية وحزبية لم يطال التغيير «رموزها»...إلا بالموت. واستمر المستفيدون من القانون المشَوّه هذا... التمديد لأنفسهم, الى ان نجحت الضغوط في قانون جديد»مُختلَط», يجمع بين النسبية والدائرة الواحدة.وهو القانون الذي ستجري على اساسه انتخابات ايار المُقبل,هذا إذا عُقِدت بعد ان «طيّرَتها» إستقالة الحريري,وكان تطييرها أحد اهداف الاستقالة, لإن فريق 14 آذار كان(وفق الاستطلاعات والمؤشرات)... سيُهزَم.الأمر الذي استدعى خلط الاوراق باستقالة الحريري, لاصطفافات ومعادلات وتحالفات داخلية....جديدة.فضلاً عن رغبة البعض بإدخال المنطقة المأزومة والمُفخخة والمفتوحة ساحاتها على احتمالات عديدة...فصلاً جديداً, اقلّه توفير الفرصة للتحالف الصهيو أميركي, لِشن حرب مدمرة أخرى,بعد فشل رهانهم على داعش وشقيقاته, نشر الفوضى في المنطقة ووَهْمَاً منهم بأن حربا كهذه ستأتيهم بالنصر,او أقلّه الحؤول دون اكتمال نصر محور المقاومة والممانعة.لكنهم... وفق كل المؤشرات والدلائل وخصوصا موازين القوى...عبثاً يحاولون.
ليس ثمة شكوك في ان استقالة الحريري,لم تكن وليدة اللحظة التي أُعلِنت فيها, كذلك توقيتها ومكانها, وما رافقها من تصريحات عنترية وبخاصة تهديده ايران بأن»ايديها في المنطقة...ستُقطع»,مع عِلمه و»الجميع» انه لا يتوفر على اي»اسلحة» عسكرية او سياسية او مالية, لقطع تلك الأيدي, وخصوصاً إسقاط «دولة حزب الله» التي وصفها بانها «دولة داخل دولة».اللهم إلاّ إذا كان يضرب بسيف غيره.. وهذا لم يثبُتْ حتى الان,رغم التحليلات والتكهنات التي تُؤشر الى تحضيرات تجري في الخفاء, وان «الإستقالة» كانت بمثابة»الصاعِق» الذي سيعتمِد عليه دُعاة الحرب في المنطقة, خصوصاً تل ابيب وصولاً الى واشنطن وبعض العواصم الأخرى,لإشعال حرب كهذه. يصعب على النافخين في كيرِها والذين يستعجلون اندلاعها, التحكّم بنهاياتها ومساراتها...وأكلافها.
من جديد يتّخذ الحريري من اغتيال والده ذريعة للإيحاء بأن حياته مُستهدفة رغم ان الأمن العام اللبناني «المخابرات وفرع المعلومات» نفى رسمياً تَعرُّض الحريري لمحاولة اغتيال, كما تُشيع اوساطه والوسائل الإعلامية»المُسانِدة».ما يُعزِّز الشكوك في انه يسعى لشد عصب مؤيديه واستدراج فتنة طائفية ومذهبية اشد عنفا من تلك التي واصَل معسكر 14 اذار الاستثمار فيها طويلا بعد اغتيال الحريري في شباط العام 2005 ووضع لبنان على حافة الهاوية, والغمز لإسرائيل ان الاجواء ملائِمة لها للقيام بمغامرة تُلحِق بحزب الله ضربة شديدة.
لبنان والمنطقة باتا في عين عاصفة اخرى,يظن معسكر الحرب والتصعيد فيها,ان رياحها ستكون ملائمة لـ»سفنِهم»,لكن قراءاتهم وخططهم تبدو ناقصة وجزئية,تفتقد الحكمة وبُعد النظر والواقعية,وتُهمِل عن قصد موازين القوى والجغرافيا ومعادلة التحالفات الاقليمية والدولية,ودائما في إصرار هؤلاء على عدم استخلاص دروس التاريخ وعِبَره.فليُغامروا إذاً.. وليُجرِبوا وليَدفَعوا الأكلاف الباهظة في النهاية...وحتماً.