بقلم: د. أسعد عبد الرحمن
أكدت “الدائرة المركزية للإحصاء الإسرائيلي” أنه، وللمرة الأولى منذ 2009، تم تسجيل ما يطلق عليه “ميزان هجرة سلبي”، حيث “إن عدد الذين تركوا فلسطين المحتلة كان أكثر من الذين هاجروا إليها”. وأظهر تقرير “الدائرة” الأحدث أنه، “في 2015 انتقل إلى هجر فلسطين المحتلة نحو 16.7 ألف إسرائيلي، غالبيتهم عائلات، في حين استوطن 8500 يهودي”. وأبرزت “الدائرة” التراجع الحاد في أعداد المهاجرين من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وهما أكبر تجمعين لأبناء الديانة اليهودية في العالم بعد إسرائيل. وقالت صحيفة “هآرتس”: “بحسب الدائرة، كان التراجع الأكبر في عدد المهاجرين في 2017 من فرنسا بنسبة 29% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي. كما أن التراجع حاصل في الهجرة من الولايات المتحدة بنسبة 25% مقارنة بالعام الماضي. وبالمجمل، يزيد عدد أولئك الذين غادروا إسرائيل ليعيشوا في الخارج لفترات طويلة أو بصورة دائمة، عن أولئك الذين قدموا إلى إسرائيل بضعفين”.
أيضا، كشف النقاب عن ارتفاع هجرة اليهود الروس من إسرائيل في السنوات الأخيرة، حيث عاد بعضهم لموطنه الأصلي فيما واصل آخرون طريقهم إلى دول أخرى. وبحسب صحيفة “هآرتس”، “تبلغ الهجرة السلبية الآلاف سنويا وكثير من هؤلاء يهود أو لهم جذور يهودية رغم أن إسرائيل هي خيار مريح لهم بسبب تلقيهم الجنسية بشكل فوري”. وكشف تحقيق إضافي نشرته “هآرتس”: “أن الكثير منهم لم يتنازلوا عن عقاراتهم في موسكو أو سانت بطرسبورغ ويديرون أعمالهم هناك عن بعد ولم يعرفوا ذواتهم يوما كإسرائيليين. في المقابل، استغل كثيرون منهم أيضا الخيارات الأخرى وغادروا فلسطين المحتلة نحو دول غربية”. وقد علق (ألكسندر بورودا) رئيس جمعية الطوائف اليهودية في روسيا على هذا الأمر بالقول: “هذه النزعة لا تتعلق بالانتقال الفعلي إلى إسرائيل، بل ترتبط برغبة اليهود الروس في الحصول على جواز السفر الإسرائيلي بحيث يمكنهم دخول أكبر عدد من الدول دون تأشيرة”.
ووفقا لاستطلاع أجراه مؤخرا معهد “ميدغام” لصالح مشروع لوزارة التربية والتعليم والجيش الإسرائيلي، اتضح أن “27% من سكان إسرائيل اليهود يرغبون بالهجرة لو تمكنوا من ذلك”، إضافة إلى “أن الراغبين في الهجرة من إسرائيل هم بالأساس شبان يهود أعمارهم تتراوح ما بين 23-29 عاما، أي الطبقة الوسطى في المجتمع ذات الكفاءة العالية”. وفي رده على نتائج الاستطلاع، قال مدير عام المشروع (أوري كوهين): “حقيقة العدد الكبير الذين يقولون إنهم سيغادرون إسرائيل لو تمكنوا من ذلك، تؤشر على أن الكثير من مواطني إسرائيل لا يشعرون بالانتماء للدولة. وهذا معطى مقلق ويحتم علينا جميعا مواجهة هذه القضية الصعبة”. وأضاف: “معطيات الاستطلاع تدل على وجود مشكلة بالشعور بالهوية، والارتباط والانتماء للشعب والبلاد والدولة لدى جمهور آخذ بالازدياد في دولة إسرائيل وهذا واقع يخلق شرخا وانقساما في المجتمع الإسرائيلي كله”.
وفي تفسيره لرغبة الإسرائيليين في الهجرة، يقول الصحافي (آري شافيط): “يُمكن أننا اجتزنا نقطة اللاعودة، ويمكن أنه لم يعُد من الممكن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام، ويمكن أنه لم يعُد بالإمكان إعادة إصلاح الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم البلاد. إذا كان الوضع كذلك، فإنه يجب مغادرة البلاد”. وقال: “إذا كانت الإسرائيلية واليهودية ليستا عاملين حيويين في الهوية، وإذا كان هناك جواز سفر أجنبي، ليس فقط بالمعنى التقني، بل بالمعنى النفسي أيضا، فقد انتهى الأمر. يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين حيث القومية المتطرفة الألمانية الجديدة، أو القومية المتطرفة الأمريكية الجديدة، يجب النظر بهدوء من هناك ومشاهدة دولة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة”. وختم: “الإسرائيليون يدركون أن لا مستقبل لهم في فلسطين، فهي ليست أرضا بلا شعب، كما كذبوا.” أما (جدعون ليفي) فيؤكد: “لن يستطيع أحد وقف عملية التدمير الذاتي الداخلي الإسرائيلي، إذ إن المرض السرطاني الذي تعاني منه إسرائيل قد بلغ مراحله النهائية ولا سبيل لعلاجه لا بالأسوار ولا بالقبب الحديدية ولا حتى بالقنابل النووية”.
في سياق متمم، تؤكد الإحصاءات الفلسطينية والإسرائيلية أنه في 2020 سيصل عدد اليهود في فلسطين التاريخية إلى نحو 6.96 مليون يهودي مقابل 7.2 مليون عربي. ومن هنا يأتي الذعر الإسرائيلي من “الهجرة المعاكسة” التي تساعد في وجود أغلبية عربية الأمر الذي يضيف معضلة إلى معضلات إسرائيلية عديدة، فالهجرة المعاكسة لا تعني خسارة أدمغة وكفاءات فحسب، بل تعتبر إشكالية وجودية. ومن المعروف أن إسرائيل، منذ تأسيسها، اعتمدت على رفد “الدولة” بالهجرة الخارجية من المستعمرين/ “المستوطنين” وزيادة أعدادهم. لكن يبدو أن كثيرا من الشباب اليهودي باتوا على قناعة بأنهم وقعوا في “فخ كبير”، وأن استقرار الأمن لفترات طويلة داخل مجتمعهم هو ضرب من الخيال، وأن حكومة يرأسها شخص مثل (بنيامين نتنياهو) لا يمكن لها أن تحدث تسوية حقيقية مع الفلسطينيين، فيما الوضع الاقتصادي يتراجع مقارنة بالماضي، دون أن ننسى تغلغل التيار الديني اليهودي المتطرف ونفوذه وتحكمه في مسارات الحياة الإسرائيلية، وهو الأمر الذي ينفّر إسرائيليين كثيرين ويملأهم بالقلق على أوضاعهم في الدولة “النموذجية” المتخيلة… “إسرائيل”!!!