بقلم: الدكتور بلال عبد الرحمن إبداح
قال الله سبحانه: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج:27).
كلما أقبل موسم الحج وشهره المبارك اتّجهت أنظار المسلمين من كلّ مكان إلى تلك البقاع المقدسة، واشتاقت نفوسهم وتطلّعت قلوبهم إلى هاتيك الرحاب الطاهرة، فهنيئاً لحجاج بيت الله الحرام على ما حباهم الله –سبحانه- من نعم وأعطيات، وعلى ما أغدق عليهم من فيض الرحمات، هنيئاً لهم عظمة الشعائر وجلال المشاعر، هنيئاً لهم شرف الزمان وشرف المكان وشرف الأعمال، فيا ليتنا كنّا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي ،، هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي ،، الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ ،، يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا ،، عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى ،، عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ ،، نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
نعم ،، الحجّ رحلة إيمانية روحية، ومؤتمر إسلامي مهيب يجتمع فيه المسلمون من كلّ حدب وصوب، تعلوهم صيحات التلبية ونداء الوحدانية، وأذانهم يوم الحجّ الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله؛ فهنيئاً لكم حجاج بيت الله الحرام بشرى النبي –عليه الصلاة والسلام- إذ يقول فيما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- وأخرجه البخاري – رحمه الله- : "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه".
وفي كلّ منسك من مناسك الحجّ، وفي كلّ شعيرة من شعائره – أيها الأخوة الفضلاء – محطّات عظيمة وحكم جليلة يجدر بالمسلمين أنْ يقفوا عندها، وينهلوا من عبرها وعظاتها؛ فعندما يصل حجّاجنا إلى المدينة المنورة – طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم – تطيفُ بهم الذكريات وهم يتنسّمون عبق السيرة النبوية الشريفة وتضحيات الصحابة الأطهار في سبيل إقامة الدّين ونشر الهداية في العالمين.
ويستذكر حجّاج بيت الله الحرام وهم يزورون مسجد قباء (الذي شكّل بناؤه أوّل عمل قام به النبي الكريم بعد الهجرة إلى المدينة ) أهمية المساجد في حياة المسلمين، وأنها أصل أصيل وركن ركين لا تستقيم حياة الأمة إلا بأنوار الإيمان التي تعمره، وحينها يدرك الحجّاج حجم التقصير الذي أصاب بعض المسلمين الذين هجروا بيوت الله تعالى وما عمروها إلا قليلا.
وعندما يحلّ وفد الرحمن في ميقات الإحرام فيخلعوا ملابسهم ويكتسوا ببيض الثياب فذاك تذكير بيوم لا شكّ آت، يوم إعراضنا عن الدنيا وإقبالنا على الآخرة.
فكلّ ابن انثى وإنْ طالت سلامته ،،، يوماً على آلة حدباء محمول وكفى بهذا الموقف للحاجّ واعظاً ليتجرّد من كلّ شهوات النفس والهوى فيؤدي كلّ مناسكه وفق مراد الله تعالى القائل: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ" (البقرة:197)
والطواف حول الكعبة المشرفة ربط للقلوب بربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، فهو طواف أرواح حول معانٍ عظيمة، لا طواف أجساد حول حجارة صمّاء؛ ففي الطواف حول البيت العتيق تجديد للعهد مع الله تعالى وجمع للناس على إفراده سبحانه بالعبودية، قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل – عليه السلام- : "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (ابراهيم:37).
وأما السعي بين الصفا والمروة – يا عباد الله – فهو تذكير بحال أم إسماعيل عليها وعلى زوجها وولدها السلام، بعد أن تركها زوجها إبراهيم الخليل استجابة لأمر الله تعالى؛ فتنكر عليه وهي بانتظار أنْ تضع حملها، فيخبرها أنه أمر الله تعالى، فتقول والإيمان يغمر قلبها الطاهر: اذهب فإنّ الله لن يضيعنا، وتضع مولودها إسماعيل – عليه السلام – عند الكعبة المشرفة، ثم تخرج إلى جبل الصفا ثم إلى المروة سبع مرّات التماساً للفرج من الله تعالى؛ فيأتيها رزق ولدها من حيث لا تحتسب، ويخرج المولى – سبحانه – من الأرض ماء زمزم ليشرب منه ولدها والنّاس والحجيج من بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي هذا الحدث إشارة لا تخفى على أهمية اعتماد القلب على الله تعالى في تحصيل الأرزاق مع الأخذ بالأسباب المُتيسّرة، استجابة لأمره –سبحانه- إذ يقول: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك:15).
أيها الأخوة الفضلاء:
وفي عرفات الله يُتمَّم البناء، حيث يتجلّى الله تبارك وتعالى على عباده، فيُباهي بهم ملائكته، فهؤلاء المؤمنون جاؤوه شُعْثاً غُبْـراً يرجون رحمته ويخشون عذابه، هناك في عرفات تحتشد الآلاف المؤلفة يستذكرون يوم العرض على الله "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْـرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" (آل عمران:30) ، ويهتفون كلهم بشعار الإسلام الخالد "لبيكَ اللهم لبيك، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلْك، لا شريكَ لك".
وفي شعيرة رمي الجمرات إعلانٌ صادق على محاربة الشيطان، وتأكيد على حسن الاتباع لملّة إبراهيم –عليه السلام- ، قال تعالى: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران:67).
أيها المسلمون:
في كلّ منسك من مناسك الحجّ حكم وعظات يجدر بالحجّاج والمسلمون الوقوف في ساحتها، واستلهام جليل مرادها، وهم يجمعهم الألم على جراحات الأمة وأوجاعها كما يجمعهم الأمل بالله تعالى على الخروج من كلّ ضائقة أو نازلة، وهو المولى ونعم النصير.