بقلم: د. حفظي
اشتية
قبل ما روّجوا
له وضخّموه، وما يزالون يروّجون من حكاية المحرقة بنصف قرن، كان
"هيرتزل" يبحث عن حلّ لمشكلة اليهود المضطهدين في العالم لخبثهم ومكرهم
وسوء أخلاقهم وقبح أعمالهم، فظهرت فكرة إيجاد وطن قوميّ لهم يضمّ شتاتهم، وتعددت
الاختيارات والمقترحات، ولمعت في المخاض فكرة دينية بادت واهترأت عن الأرض
الموعودة، فكان الميلاد الشيطاني والطلع السرطاني!!!
أرسل حاخامات
"فيينا" اثنين منهم لتفحّص أرض فلسطين، ومدى ملاءمتها لتنفيذ الفكرة.
وبعد جولاتهما طويلا في ربوعها أرسلا تقريرهما في جملة تشعّ منها الحقيقة :
" العروس
جميلة لكنها متزوجة برجل آخر " يعني : الأرض مناسبة لكن فيها سكانها.
صدق الرجلان،
فقد كانت فلسطين منارة الشرق بمدنها المنظمة، وموانئها ومصانعها ومزارعها وكنائسها
وجوامعها، والأهمّ يسكنها الذين يملأونها ويتجذّرون فيها.
لكنّ الغرب
الاستعماري الظالم راقت له الفكرة، وصمّم على التنفيذ ليتخلص من اليهود ويقذف بهم
بعيدا، ويتخذهم قاعدة متقدمة له لتحقيق أطماعه، ومحاربة العروبة والإسلام معا،
فكان وعد بلفور الأليم سنة 1917م.
ثم كانت ستة
وعشرون عاما ( هي فترة الانتداب البريطاني على فلسطين من 1922م ــ 1948م )كافية
لتحقيق الحلم المستحيل.
بدأت الهجرة
فورا، والتكتّل في "المستعمرات"، والتنظيم، والتدرب على السلاح، والاستيلاء
على الأراضي....وسرعان ما أدرك أصحاب الأرض والحق خطورة الأمر، فبدأت المقاومة
واشتعلت الثورات والإضرابات، لكنّ الراعي الخبيث كان يدير الأمر بكل مكر، يقمع
الثورات، ويزرع الفرقة، وينشر الترغيب والترهيب، ويعلّق المشانق على رصاصة فارغة
يجدها عند العربي، بينما تقذف البواخر مئات الآلاف من المهاجرين اليهود المنظمين
المدربين معززين بالسلاح الحديث الفتّاك.
وكان المستعمر
الغدار يخدّر الأعصاب بلجان تغدو وتروح، وهيئة الأمم المتحدة الوليدة تُصدر القرار
تلو القرار، والأرض تتسرّب من أصحابها، والمشروع العدواني يشبّ عن الطوق، ويقف على
ساقه، وأهل البلاد فقراء معدمون، وزعماؤهم متفرقون، والعرب حولهم مستعمرَون مُنهَكون
لا يقوون على نصرة إخوانهم ودرء الخطر الداهم عنهم.
تنسحب بريطانيا
تاركة السلاح والمؤسسات للعصابات، ويخوض العرب معركة غريبة شرفها عظيم وشجاعتها
هائلة، لكنّ أسلحتها عاجزة وتخطيطها شبه معدوم، فكانت النتيجة الحتمية المروّعة :
( ضاعت البلاد وتشرّد أهلها، وتحولت أوهام الأعداء إلى وقائع يستعصي طمسها).
ثم طويت عقود
وعقود توالت فيها نكبات ونكبات، وعميت معظم العيون التي أردنا تكحيلها، ووصلنا إلى
حالة ينشر فيها العدو ــ مجاهرا ــ خرائطه في الأمم المتحدة، مستعرضا تغلغله في
عالمنا وتسلله إلى دواخلنا.
ولولا بطولات
الجيش العربي الأردني في جنبات القدس والكرامة، والجيش العراقي في جنين، والجيش
المصري والسوري في تشرين، ولولا المقاومة الشريفة الفلسطينية واللبنانية والعراقية
واليمنية، وصمود الأهل في الوطن المحتل، لأصبح المشرق العربي كله حمى مستباحا
تماما للمستعمرين والصهاينة.
وجاءت الحرب
الأخيرة في غزة لترفع الشعلة، وتفتح الصفحة الأولى لكتاب نكبتنا من السطر الأول، وتعيد المسألة
جَدَعة من جديد.
هذه الأرض لنا،
وهي عربية إسلامية، للعرب اليبوسيين الكنعانيين منذ آلاف السنين قبل الميلاد،
وللعرب المسيحيين قبل الفتح الإسلامي، وللعرب المسلمين منذ أكثر من 1400 عام،
واليهود مرّوا بها عابرين، أقاموا بها دويلة سرعان ما تمزقت إلى دويلات، وكان
وجودهم وبالا على أهل البلاد، وعلى كل من جاورهم وتعامل معهم، بل على أنفسهم
وأنبيائهم.
وقد أثاروا غيظ
الأمم من أشوريين وبابليين ومؤابيين ورومان....، فحوربوا وتم استئصالهم منها، ثم
تمّ سبيهم، وتشتيتهم في أصقاع الدنيا، ولم يجدوا ملاذا كريما وملجأً أمينا إلا في
أحضان الحضارة العربية الإسلامية، لكنهم أفاعٍ وثعابين، عادوا إلينا متشبثين
بأساطيرهم الدينية يوظفونها لخدمة مصالحهم وتمرير مآربهم، علما بأن معظمهم
علمانيون وأبعد الخلق عن الدين، يؤازرهم الغرب الماكر ليتخلص منهم، ويستخدمهم في تحقيق
أهدافه الاستعمارية في أوطاننا، وهم يدركون أن هذه الدولة نتاج وهْم، وحمل كاذب،
فإذا كان للأمم حق في أن يعود كلُّ منها إلى أي مكان عَبَره، أو احتله، أو أقام
فيه، فيتوجب على هذا العالم أن يعيد رسم خرائطه جميعها من جديد، ولْيشرِّع لنا ــ
نحن العرب ــ أن نعود إلى الأندلس وجنوب فرنسا وقبرص ومالطا وسردينيا والبحر
المتوسط كله وشرق آسيا وأواسط إفريقيا.... ولْيشرِّع لنا ــ نحن المسلمين ــ أن نعود إلى معظم بقاع
العالم القديم من وسط أوروبا إلى بوابات موسكو!!
إنها كذبة القوي
التي يحاول أن يتحايل واهما ليفرضها فتصبح حقيقة. أما الحقيقة التي لا تحتاج إلى
تحايل فهي أن هذه الأرض لنا، وهم حقا عابرون، كنا نعمرها ونملأها حضارة قبل تسللهم
إليها، وما زلنا صامدين فيها، وهم حتما زائلون.
ورغم المآسي
الهائلة التي نتجت عن الأحداث الأخيرة، وسيول الدماء الجارفة، والتهجير والتدمير،
فإن الحقيقة الأكيدة أطلّت برأسها من جديد تنادي : هذه العروس لأهلها، ولن تكون إلّا
لهم، وهم وحدهم يستحقونها، فقد دفعوا مهرها الغالي، وسيدفعون المزيد، إلى أن يشاء
الله فرضَ الخلاص بنصر المظلومين، فالله رب المستضعفين ينصرهم ولو بعد حين، وهو
سبحانه "فعّال لما يريد".
وعلينا أن نعيد
في أذهان أجيالنا إحياء الوعي بحقنا، مذكِّرين بأننا لا نسعى إلى إبادة غيرنا، ولا
نظلم حتى من ظلمنا، لكننا نريد حقنا الذي غُصب منا ظلما وقهرا ومكرا، نحن أصحاب
الأرض الأصلاء الحقيقيون، ومن يُقمْ بيننا في أرضنا يكنْ ضيفنا، وله حق في
أعناقنا، ومن يواجهْنا بالشرعية الدولية، والإنسانية، وحقوق الإنسان ( التي عاينّا
التزام الغرب والعدو بها!!)، ومن يذكّرْنا بالمعاهدات الموقعة، نقُلْ له : نحن
الذين علّمنا العالم الإنسانية وحفظ العهود، وصون حقوق الرعية منذ العهدة العمرية.
أما الشرعية
الدولية ولجانها ومنظماتها، فنحن أول من سيلتزم بها ويطبّقها جميعها، منذ لجنة
"بيل"، ولجنة "وودهيد"، وقرار 181، وقرار 194، وقرار 242، وكل
ما تلاها من قرارات تضمن الحياة والكرامة الإنسانية لأصحاب الحق الشرعيين
وللأدعياء المتطفلين.