خلال الفترة من 1302 وحتى عام 1920، أو
ما يساوي 618 عاماً، خاضت الإمبراطورية العثمانية أكثر من 250 معركة كبرى، تحقق
لها النصر في معظمها حتى منتصف القرن السابع عشر، ثم بعد ذلك كانت النتائج مختلفة،
حتى أدت إلى سقوط الإمبراطورية.
وبالمقابل، عقدت الإمبراطورية أكثر من
70 معاهدة بين السنوات 1403 وحتى عام 1920. ولو رسمنا منحنى لتاريخ الإمبراطورية
لرأينا أنه يكاد يكون على شكل جرس مقلوب، حين بدأت الإمبراطورية بعهد عثمان، وإن
أجمع المؤرخون أن بداية الدولة كانت في عهد أورخان الغازي وانتهاء بمحمد خان
السادس، فإننا نرى أنه بعد عام 1529 حين حاصرت جيوش السلطان سليمان القانوني مدينة
فيينا عاصمة الهابسبيرغ فإننا نرى أن مقابل كل معركة أساسية حاسمة أثناء الصعود
معاهدة مقابلها عند الهبوط. ونرى كذلك أن المعاهدات تكثر عدداً عند الهبوط وتتقلص
المسافات الزمنية بينها، بينما تزداد المعارك والانتصارات على منحنى الصعود.
ومن الطريف مثلاً أن التاريخ يحدثنا أن
أول ثلاث معاهدات هامة وقعتها الإمبراطورية العثمانية لم تكن مع غرماء حرب، بل مع
شركاء غُنم، وهذه المعاهدات هي قاليبولي، وسليمبريا ومعاهدة السلام العثمانية
البندقية في الأعوام 1403، 1411 وَ1413 على التوالي. وخلال هذه الفترة 1402- 1413،
كانت الإمبراطورية في حالة انقطاع عن الحكم وحروب بين الأخوة على العرش خاصة بعد
هزيمة معركة أنقره عام 1403 والتي خسر فيها بايزيد الصاعقة أمام جيوش المغولي
تيمور لنك أو (تيمور الأعرج)، وكانت هذه المعاهدات مع البندقية ذات محتوى سياسي
وتجاري.
وأتذكر أنني كتبت بحثاً في هذا الموضوع
لما كنت طالباً بالجامعة الأميركية بالقاهرة في ستينيات القرن الماضي. وقد استمعت
لاحقاً إلى محاضرة ألقاها الباحث المعروف الدكتور هشام الشرابي أحد أعمدة الحزب
القومي الاجتماعي السوري، وأحد المقربين من رئيس الحزب جورج سعادة.
وفي المحاضرة الاقتصادية التاريخية شرح
لنا الشرابي النموذج الذي بنيت عليه إسرائيل. وهو الدخول في حرب لاحتلال أرض، ومن
ثم تجذب مزيداً من المهاجرين اليهود، وتأتي بعد ذلك المساعدات ما يساعدها على هضم
الأرض، واستثمارها لجلب مهاجرين جدد، ومن ثم جذب المزيد من الأموال والمساعدات،
ومن ثم شراء السلاح وتطويره استعداداً لحروب جديدة. وحتى لو لم تفضِ إلى احتلال
مزيد من الأرض. ولكن ادعاء النصر فيها يجلب المزيد من المساعدات. وهذا ينسجم إلى
حد كبير مع ما يسمى بعقيدة بن غوريون (Ben Gorion’s Doctrine).
وبحسب هذه العقيدة الأمنية، فإن بن
غوريون كان يرى أن إسرائيل تواجه تحدياً وجودياً، ولذلك عليها أن تعزز استمراريتها
وبقاءها بالاستعداد للحروب، ونقل المعارك من أرض الكيان الواقعة تحت سيطرته إلى
أراضي العدو. ولذلك، فإن على إسرائيل أن تكون جاهزة عسكرياً ومتفوقةً على جيرانها
ومحافظةً على المبادرة. وإذا دخلت الحرب فإنها يجب أن تنتصر لأن الخسارة تعني
الانقراض. والانتصار إذا تحقق يمكنها من تحييد بعض الدول العربية القوية حولها عن
الصراع. وقد خص بن غوريون مصر بهذا الأمر، وجعله واحداً من أهم أهداف الدولة.
ومع أن الإمبراطورية العثمانية اتبعت
نفس المنهج في بناء الجيش وتطويره، وعززت إمكاناته بالسلاح، إلا أن أهدافها كانت
مختلفة. فهي لم ترد حكم الأقليات وتركت للدول التي افتتحتها حرية الحكم الذاتي. وقد
طور العثمانيون فكرة الجيش الانكشاري ( أو السرايا الجديدة) إشارة إلى ما يسمى
اليوم بالقوات الخاصة. وطوروا استخدام الأسلحة، وسخروا أحدث الوسائل مثل القذائف
البارودية (Cannon balls)
بعدما علموا أن ملح البارود المتفجر والذي اكتشفه الصينيون قد حاول الصفويون في
إيران استخدامه على يد اثنين من الإنكليز، وكذلك تمكنوا بالعبقرية التكنولوجية من
تجاوز السلاسل الضحمة في مضيق الدردنيل عند محاصرتهم واحتلالهم لمدينة إسطنبول عام
1453.
وإسرائيل بالمقابل أدركت أن الحفاظ على
تفوقها يتطلب مهارات عالية في سلاح الجو، والاتصالات، واستخدام الذكاء الاصطناعي
للتجسس والمراقبة. واستخدمت الدعاية وتشويه صورة الآخر لكي تعوّض النقص الهائل في
تعداد اليهود مقابل العرب بتحشيد قوى الغرب، وخلق تلك الصلة بين اليهودية
والمسيحية الصهيونية.
العثمانيون بالمقابل، خلقوا الجيش
الإنكشاري من أبناء المسيحيين الذين كانوا يشكلون نسبة عالية من السكان. وقد كنت
أعتقد أن العائلات المسيحية التي يُختار أبناؤها لكي يلتحقوا بالجيش الانكشاري
غاضبون وحانقون على ذلك. ولكن وجدت أن اختيار أبنائهم لهذا الجيش بالذات ليكونوا
في صحبة السلطان العثماني شكل مصدر فخر واعتزاز لهذه الأسر.
وبسبب أنهم مسلمون وأن نَسلَ
العثمانيين من قبائل في آسيا الصغرى، فقد استطاعوا تحشيد أعداد كبيرة لنصرتهم. وقد
تعلمنا من التاريخ أن الحروب طويلة الأمد تكسب في نهاية المطاف من الدول الأكثر
سكاناً. وهذا هو الأمر الديمغرافي الأكبر على نتائج الحروب، فقد تتغلب التكنولوجيا
العسكرية والتفوق فيها، ولكن الحروب الطويلة تمكن المغلوب والأكثر سكاناً من
استثمار الوقت للبحث عن وسائل لتحييد أثر التفوق التكنولوجي في الحروب، ومن ثم
الانقضاض على خصمهم وإنهاء سيطرته وهيمنته، أو طرده كلية من الأراضي التي احتلها.
لقد جرب اليهود عبر التاريخ تأسيس دولة
لهم. ولكن هذه الدول لم تدم طويلاً. ولعل إسرائيل هي أطول هذه الدويلات عمراً. فهم
وإن تفوقوا ودعمتهم الظروف، فإن الغرور الذي يصيبهم يعمي أعينهم عن الحقيقة أن
العداء الذي تخلقه مع جيرانك سينقلب عليك في نهاية المطاف. وهناك مؤرخون
إسرائيليون ومنهم " بيني موريس" الذي يعطي اليهود حق التطهير العرقي
للبقاء، ولكنه لا يتوقع استمرار إسرائيل، بل ويبشر لها بنهاية تراجيدية فاجعة.
أما المؤرخ الجديد الآخر الذي يتوقع
نهاية إسرائيل فهو "آفي شلايم" صاحب كتاب الحائط الحديدي The Iron Wall وكتاب The Lion of Jordan فقد قال في مقابلة له مع
قناة الجزيرة إن إسرائيل تحولت بعد عام 1967 إلى دولة وحشية، وأصبح العيش فيها غير
آمن لليهود.
وهنالك آخرون. ولكل واحد من هؤلاء
روايته. ولا أريد الخوض هنا في الدراسات لبعض الباحثين المتميزين من العرب، ولا في
التنبؤات القائمة على الكتب السماوية. ولكن السؤال: " هل أثبتت معركة طوفان
الأقصى" وامتداداتها أن إسرائيل باتت تقترب بسرعة أكثر من نهايتها ككيان؟ وقد
يبدو السؤال في ظل ما نراه من وحشية وبربرية ونية واضحة للتطهير العرقي في غزة أن
هذا السؤال يبدو ضرباً من الخيال وهروباً من الواقع"، ولكنني أرى غير ذلك.
وبغض النظر عن نتائج هذه المعركة في
غزة، وليست الحرب كما يدعي نتنياهو وزمرته، إلا أنها قد دقت عدداً من الأسافين
التي تضع " عقيدة بن غوريون" الأمنية في مأزق حرج تجعلها فاقدة لكثير من
مكوناتها، ويظهر من الدلائل التاريخية أن إسرائيل قد وصلت إلى ذروتها، وأن ليس
أمامها إلا التراجع.
إسرائيل لم تكسب معارك بشكل يؤدي إلى
توسعها منذ عام 1973، وحتى تلك المعركة التي يروج البعض أنها كانت مسرحية مرتبة
جعلت إسرائيل تتنازل عن مكتسباتها الجغرافية في سيناء وطابا نتيجة لمعاهدة كامب ديفيد
عام 1979.
وإسرائيل انسحبت بعد معاهدة وادي عربة
عام 1994 من أراضٍ محددة من الأردن، ولبنان، وأخيراً من قطاع غزة التي تمنى إسحق
رابين يوماً أن تغرق في البحر ليخلص من همّها.
وقد قامت إسرائيل قانونياً بضم القدس
الشرقية وكذلك حديثاً هضبة الجولان. ووضعت القانون الوطني القومي لليهود عام 2018،
مبيحاً لها التوسع في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية.
ولكن رغم كل ما يلقاه الأهل من تدمير
في غزة فإنهم صابرون مثابرون. وكذلك أهل الضفة الغربية وأهل القدس. وقد فشلت كل
جهود إسرائيل حتى في ظل حكومات المتدينين والعنصريين منهم برئاسة نتنياهو من تقليل
السكان أو الديمغرافيا الفلسطينية هناك.
ومن الواضح أن معركة " طوفان
الأقصى" قد اكسبت القضية الفلسطينية زخماً واهتماماً أضاع كل الجهود
الإسرائيلية للتمويه على وجودها وأهميتها. وسوف يحصل تصدع في مواقف الدول المساندة
لها. وهذا سوف يزيد من عزلة إسرائيل، ويكشف تزويرهم للتاريخ وادعاءهم الديمقراطية.
إذن فمنذ عام 1967، وما صاحب هذه
الفترة من توحش عادت إسرائيل إلى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي دولة تبحث لها
عن عقيدة لضمان وجودها، وكأن طوفان الأقصى قد أرجعها إلى "عود على بدء".
فالتوقع من الآن فصاعداً أن يكثر
المهاجرون اليهود من إسرائيل وليس إليها. ومن المتوقع أيضاً زيادة الميول المتشددة
في صفوف العرب والمسلمين للتعامل معها. وسيخرج شباب عرب وفلسطينيون يجسرون كل
فجوات السلاح والتكنولوجيا والعلم والدعاية والإعلام. ولم يبق أمام إسرائيل إلا
مصير واحد قصر الزمان عليه أم طال.
إسرائيل في طريقها إلى الزوال، والسؤال
ليس: "هل بل متى؟".
عن العربي الجديد