عبد الحميد المجالي
في عام 1977م ـ وكنت لا ازال محررا مستجدا في دائرة الاخبار بالاذاعة ـ اطاح وزير الاعلام بمدير الاخبار بطريقة سادها الغضب والعصبية ، والسبب هو ان نشرة اخبار الساعة الثانية ظهرا تضمنت خبرا ورد من وكالات الانباء العالمية عن انخفاض اسعار البترول عالميا . وحجة الوزير ، ان مدير الاخبار يجب ان يعرف ان الحكومة تنوي رفع اسعار المحروقات ، ومثل هذا الخبر يضعف من حجتها في تبرير الرفع . وبعد ذلك غابت اخبار هبوط اسعار النفط عن نشرات الاخبار لفترة طويلة .
اذكر هذه الحادثة من اجل ان اقول ، ان رفع الاسعار في الاردن ليس جديدا او يتعلق بحكومة معينة ، بل يمتد لعقود قد تقترب من عمر المملكة ، حيث كانت تضطر خلالها الحكومات لرفع الاسعار من اجل تصحيح المالية العامة للدولة التي تتاثر سنويا بالخلل الدائم في معادلة الموارد والسكان . حيث الموارد المحدودة تبقى ثابتة في حين يزداد عدد السكان ومطالبهم ، كما يزداد الامر سوءا مع تدفق اللاجئين من الدول العربية المضطربة امنيا ، وهو ما يضاعف الخلل في المعادلة المذكورة .
علينا ان نعترف ان بلدنا يعيش منذ انشائه ازمة اقتصادية ومالية اصبحت مزمنة ويتعمق استيطانها في البلد لان احدا لم يحاول تشخيص هذه الازمة و ايجاد حلول جذرية لها ، بل ان ما تقوم به الحكومات هو مجرد اجراءات لمعالجة النتائج الظاهرة والسطحية للازمة ، متجاهلة اسبابها الحقيقية ، وهي ضعف الموارد وسوء ادارة ما هو متوفر منها .
لقد اعتمدت الموازنة العامة للدولة خلال العقود الماضية على موردين رئيسيين وهما : الاول : فرض الضرائب والرسوم على مواطني الدولة لزيادة الايرادات والثاني : طلب المساعدات المالية من الدول الشقيقة والصديقة . وكلا الامرين الاول والثاني مر مرارة العلقم ، لان الاول يضاعف من حالات الفقر بين المواطنين ويوسع الهوة بينهم وبين الحكومات بل ويضعهما على طرفي نقيض ، والثاني يفقد الدولة هيبتها ، كما يفقدها جزئيا او كليا استقلال قرارها السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي . فلا احد في هذا العالم يعطي منحا ومساعدات بلا ثمن .
كيف لم تحاول الحكومات معالجة الازمة الاقتصادية المزمنة في البلاد جذريا واكتفت بمعالجة مظاهرها السطحية ؟
هناك دول عديدة في هذا العالم تفتقد للموارد وفي وضع اسوا من الاردن في هذا المجال ، ولكنها استطاعت ان تجد حلولا جذرية لمشكلتها الاقتصادية واصبحت الان من الاقتصاديات المهمة في العالم .
سنغافوره جزيرة اسيوية تخلو من اي موارد طبيعيه ، استقلت عن ماليزيا عام 1965وكان معظم سكانها يعيشون في بيوت من الصفيح . سخر لها الله زعيما عبقريا يدعى” لي كوان “ اراد ان يصنع سنغافورة جديدة وحدد رؤيته واهدافه وبدا بالعمل على اساس شعار رفعه وهو “ المحاكاة الصناعية للغرب والتمايز الثقافي عنه “ وركز على ثلاثية عمل على تطبيقها بحزم واخلاص ومتابعة وهي “ الاستقرار السياسي ، الانضباط الاخلاقي وثقافة العمل “ وبعد سنوات استطاع ان يعبر بسنغافوره الى عالم الحداثة ، وهاهو المواطن السنغافوري يحظى بمعدل دخل سنوي يعتبر من اعلى الدخول في العالم ، رغم ان بلاده بلا موارد طبيعية .
كوريا خرجت في عالم 1953 من حرب مدمرة ، لكن اهلها قرروا النهوض من تحت الرماد. وخططوا لذلك وحددوا اهدافهم بالتوجه نحو التصنيع المتدرج باعتباره الحل الوحيد لبلد يخلو من الموارد . ونفذوا بكفاءة واخلاص ماخططوا له بعد ان نقلوا التكنولوجيا او سرقوها ـ لافرق ـ من اليابان واوروبا وامريكا ، لكنهم صنعوا كوريا جديدة تملأ صناعاتها منازلنا وشوارعنا ونتباهى بامتلاكها كمستهلكين .
ماليزيا لها حكاية اخرى صنعها مهاتير محمد ورفاقه في سنوات قليلة ، عندما حددوا هدفهم بالقول “ نريد ان نصنع من ماليزيا امة عظيمة “ .وهناك تجارب اخرى في العالم كالتجربة الصينية والتركية وغيرها .
كيف اضعنا كل هذه السنين ولم نحاول مجرد المحاولة ان نصنع بعضا مما صنع هؤلاء البشر ؟.
اعرف اننا لانستطيع ذلك ، فثقافة العمل والنزاهة والانضباط الاخلاقي ليست جزءا من ثقافتنا . اننا شعب كغيرنا من العرب نفضل سوق عكاظ على بناء منشاة صناعية او اختراع تكنولوجيا جديدة .
الحل في استدعاء خبراء من هذه الدول صاحبة التجارب الرائدة لدراسة وتشخيص الحالة الاردنية ووضع الحلول لها ، على ان تسند مهمة تنفيذ هذه الحلول الى مؤسسات عابرة للحكومات ، ويديرها خبراء في الادارة نظيفوا اليد والعقل ، ويعملون تحت رقابة تحاسبهم على نسبة تنفيذ هذه الحلول .
قد يكون لدى غيرنا حلول اخرى ، فالمهم ان تخرج هذه الحلول الى الوجود ، لان تجاهل جوهر الازمة سيزيد الوضع سوءا عاما بعد عام ، وستضطر الحكومات القادمة كما هي السابقة والحاضرة ، الى الاستمرار في رفع الاسعار وعندها من الصعب توجيه اللوم لها ، لانه ليس هناك حلول اخرى لدعم الميزانية. لكن ماذا ستكون اوضاع الشعب بعد ذلك ، وما هو حجم الفجوة بينه وبين حكوماته في ظل ازمة اقتصادية مزمنه تأكل ما وراءها من انجازات وما امامها من تطلعات ؟
عن الدستور