في 25/9 سأكمل السبعين، وسين التسويف
معلّقة بمشيئة الربّ اللطيف.
يتسلّل إلى فكري طيف ميخائيل نعيمة،
ناسك الشخروب، الذي جاب الدنيا شرقا وغربا، وملأ السمع والأبصار، ثم عاد كسيرا مردّدا
:
لقد طوّفتُ في الآفاق حتى رضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
عاد إلى لبنان، إلى قريته "
بسكنتا " في سفح جبل " صنّين "، وعلى بعد خمسة كيلومترات شرقا من
القرية، تقع تلة " الشخروب " التي اختارها لتكون عالمه الخاص الأثير في
عزلته الاختيارية ومقامه الأخير دون زواج، بعيدا عن بني البشر جميعا وصراعاتهم
وخلافاتهم ونفاقهم ومجاملاتهم إلخ.....، بنى فيها عرزالا (عريشة) احتضنت أهم كتبه،
وأدوات كتابته وقليلا من أواني معيشته. تآخى مع النحل البرّيّ، وتقاسم معه العسل،
واجتنى الفواكهة النديّة الشهيّة، وشرب ماء السواقي السلسبيل النمير، وأطلق العنان
دون أيّة قيود لفكره، فجادت قريحته على الدنيا بثلاثين مؤلَّفا وأكثر، مؤلّفات عزّ
شبيهها، وقلّ النظير. منها : ( المرداد، الغربال، جبران.....)
وعندما أكمل السبعين عام 1960م، وظنّ
قرب النهاية، كتب سيرته الذاتية الرائعة
(سبعون) فتح فيها صفحات حياته للإفادة والعظة والاعتبار. ثم طال العمر
خلافا لظنه، فعاش تسعا وعشرين سنة فوق السبعين، وغادر الدنيا عام 1988 بعد أن لبث
فيها وحيدا فريدا قَرنا إلا عاما.
وأين أنا منه؟! لكنها أفكار كليلة
ينوء بها الذهن العاجز في هذه المحطة من العمر الشارد : تتراءى في المخيلة العليلة
طفولة شقية تجعل الطفل كهلا، إذ توكل إليه مهمات الكبار وهو غضّ الإهاب صغير،
فيُنتزع من عالم طفولته غصبا ليرعى المواشي، ويشارك في أعمال الفلاحة، ويُحرم لذيذ
المنام.
وينخرط في المدرسة لينقسم يومه بين
متطلبات الأهل التي لا ترحم، وواجبات الدوام، لتحترق سنوات عمره الأولى سريعا دون
أن يشعر بها، أو يتذوق سعادتها.
ويتفوق في دراسته محافظا على القمة
بين أقرانه، وتعلن نتائج الثانوية العامة في المذياع، ويلمع اسمه أحد العشرة
الأوائل في المملكة.
يُسرع إلى والده ليبشره بالنبأ
المدوّي، ينظر الوالد دون أن يبدو عليه أنه فهم شيئا، فيسأل : ( شو يعني العشرة
الأوائل؟! بدّك ترجّع لي القدس؟؟َ!! )، (فيستحضر
تيار الوعي في البال سريعا الكرنفال الاستعراضي الأسطوري لناجح الثانوية هذه
الأيام، وما يرافق ذلك من استجلاب مصطنع للفرح، وإغلاق للشوارع، وأبواق تصمّ
الآذان، ورصاص ماطر منهمر على رؤوس عباد الله الغافلين المهمومين......)
إجابة محبطة، وردة فعل تخيّب الآمال،
لكنه تذكر فورا أن القدس درّة الأوطان، قد احتُلّت، فقُتل في النفوس السويّة كلّ
فرح، وغُيّبت في الأرواح الأبيّة كلّ دهشة، فجاز التصرف قليلا في قول لبيد :
كلّ شيءٍ ما خلا"القدس"
جللْ والفتى يسعى ويُلهيه
الأملْ (جلل هنا بمعنى هيّن).
يعبر النهر شرقا، شوقه يسبقه إلى أرض
عربية غير محتلة، يكاد يحضن كل جندي أردني على الحدود، لأنه يرى فيه الأمل المنشود
لاستعادة الفردوس المفقود.
وعلى نفقة الدولة، يُخيّر للدراسة في
مصر أو السعودية أو الكويت أو فرنسا، لكنه يختار الأردن، ويدرس في جامعته الفتية،
مفضّلا تخصص اللغة العربية، يتفوق ويتخرج، وينسلك في شؤون التدريس ربع قرنٍ إلا
قليلا، ويتدرج في شجونه معلما وأمين مكتبة ومديرا ومشرفا ورئيسا للإشراف......
ويكمل دراسته العليا خلال عمله، فيحصل على درجة الماجستير بمرتبة الشرف الأولى،
وكذلك الدكتوراة، فيتحول إلى العمل في الجامعات الأردنية ربع قرنٍ آخر، مدرسا
مدركا أهمية التعليم، باذلا كل ما يستطيع في خدمة طلابه، والوفاء بمهمته، والحفاظ
على قدسية مهنته.
ويمضي قطار العمر سريعا.....يا لهف
نفوسنا، ما أقصر الحياة!!!!! زواج وأولاد وأعباء لا تنقطع، وهموم لا تنتهي، مشاغل،
مشاكل، صراع، ظلم، سعادة نادرة عزيزة المنال تلوح وسرعان ما تروح، صداقات تفنى
وأخرى تتجدد، علاقات تنتهي وأخرى تتولّد، أحباب يتساقطون وتبتلعهم القبور، أوطان
تتهاوى، آمال تتبدّد......
ونقف على الحصاد نتلفّت إلى الوراء
بقلوبنا الموجوعة، نبكي على ماضٍ لن يعود، ونبحث عن بقايا حياة تسرّبت من بين
أيدينا، فضاعت وما عشناها....
ونتفيّأ حكمة المعرّي الذي عانى أكثر
مما عانينا، ثم اختصر الحكاية بحروف من ذهب:
تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجبُ إلا
مِن راغبٍ في ازديادِ!!!!!!!
آه! ما أمرّ الحياة!! يُقتل فيها
الشجعان، ويتلوّى بالقهر والظلم أصحابُ العقول والمبادئ، بينما ( يُبرطع ) الجهلةُ
الواهمون، والمنافقون، والمغفلون، والفاسدون....
قالها المتنبي بعد طول عِراك في شعاب
الحياة، ومعاناة مرارتها وهمومها الفاتكة :
والهمُّ يختــرمُ الجــسيمَ نـــحافةً ويُشيبُ ناصيةَ الصبيِّ ويُهرِمُ
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقله وأخو
الجهالةِ في الشقاوةِ ينعَمُ!!!!!