بقلم: د. منذر الحوارات
هذه منطقة لا تعرف الحياد وطالما كانت
مشتعلة بالصراعات، فدولها دوماً طرف في تحالف دولي أوإقليمي، فهي لم تعرف الهدوء
أو الاستقرار سوى لفترات متقطعة لا تعدو عن كونها مرحلة لالتقاط الأنفاس، ومن ثم
تعود إلى سيرتها الأولى، منطقة لم تعرف الحسم لأغلب قضاياها لسبب واضح وهو غياب
القدرة لدى أي من الأطراف على هزيمة البقية، بالتالي لم يتمكن أحد من فرض شروطه، فلا
يوجد مفهوم النصر الكامل اوالهزيمة الكلية إلا في الإعلام، ربما بسبب تداخل القوى
الدولية والتي تحاول دوماً إبقاء الأبواب مواربة لتدخلاتها.
لقد شهدت هذه المنطقة عقداً ونيفا من
الصراع الدامي بين أطرافها ابتداء قبيل الربيع العربي وخلاله، ففي الخليج كانت
الرباعية العربية في مواجهة قطر وتركيا، وبين تركيا والعديد من الدول العربية
وكذلك بين الفاعل الرئيسي في كل تلك الصراعات إيران والجميع، وبين إسرائيل وتركيا
وإيران والعرب، كانت ساحات الصراع دولا عربية ابتُليت بالاحتلال والحروب الأهلية
والصراع على الديمقراطية والسلطة والشرعية والمشروعية، وهذا كان حال فلسطين ولبنان
وسورية والعراق واليمن والسودان وليبيا، وفي كل تلك الساحات كانت الولايات المتحدة
حاضرة بعدتها وعديدها، وكذلك كانت روسيا حاضرة بشكل خاص في سورية وليبيا والآن
تحضر الصين بأناملها الناعمة، لم يكن أحد ليتصور أن طرفاً من الأطراف يمكن أن يقدم
أي تنازل للطرف الآخر، فبينهم دماء لا حدود لها ودول سقطت في معمعة تلك المقاتِلِ
حتى وقت قريب من الآن.
وفجأة تتحقق عقيدة أوباما فأميركا لم
تعد منشغلة بالشرق الأوسط، فلديها ما هو أكثر إلحاحاً منه ولا بد من أن تخفف
تورطها في المنطقة لكنها مصرة أن تترك بعضها في هذا الشرق المُبتلى بها وبذاته،
فها هي تبادل طائراتها الحديثة بطائرات تكاد تخرج من الخدمة، وهي هنا وكأنها ايضاً
ترسل برسالة الى حليفتها اسرائيل بأنها لن تكون شريكاً في أي عمل عسكري تقوم به ضد
ايران، يبدو أن الرسالة الأميركية وصلت للجميع عليكم حلّ مشاكلكم بأنفسكم فنحن لن
نقف مع أحد ضد أحد، هذه الرسالة قرأتها دول الخليج مبكراً قبل التسارع الحالي وهي
التي سرعت على مايبدو خطوات المصالحة البينية بين دول الخليج بمصالحة الرباعية مع
قطر، وبعد تأكيد النية الأميركية بخطوات على أرض الواقع وبسببها تدحرجت التسويات
البينية بين الدول بشكل أسرع من مقدرة الراصدين الإعلاميين، ففُتحت القنوات مع
تركيا وفي نفس الوقت كانت المفاوضات تتم بين المملكة العربية السعودية وإيران، وفي
الخفاء كانت هناك مفاوضات لدول عربية عديدة مع إسرائيل، في نهاية المطاف توجت تلك
المفاوضات بإعادة العلاقات بين ايران والسعودية ودول عربية عديدة، وكذلك الأمر مع
تركيا فقد أعادت علاقاتها مع العديد من الدول العربية، والآن تبدأ موجة مصالحات
مكثفة مع النظام في سورية بغض النظر عن تطورات الوضع هناك، وها نحن نعود الى
الوراء لعقد ونصف من الزمن وكأن شيئا لم يكن، لقد توقف الزمن.
برغم كل ذلك لم يتغير شيء على أرض
الواقع، فالصراع في اليمن بقي على حاله وكذلك الأمر بالنسبة لسورية حيث بقي
محصوراً بين الإيرانيين والروس والنظام والأتراك، وبقي الشكل الطائفي هو العنوان
البارز، وفي لبنان ما يزال حزب الله وإيران هما أصحاب القول الفصل في مستقبله وهذا
هو الحال في العراق والذي بقي أسيراً للمصالح الإيرانية والتركية والأميركية، أما
بالنسبة لإسرائيل فما تزال تقتل الفلسطينيين بدم بارد وما تزال المستوطنات
والانتهاكات للأقصى قائمة بل ويزداد الأمر سوءا بالتنمر على الأردن، إذاً ساحات
الصراع ما تزال تقطر دماً والضحايا هم الضحايا، فعلام تصالحوا إذاً؟، يبدو أن هذه
ليست سوى مرحلة مؤقتة لالتقاط الأنفاس، فتركيا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة وكذلك
الحال في إيران فالاحتجاجات والحصار الغربي أدخل الاقتصاد في نفق مظلم وتغطية النشاط
العسكري المتصاعد يحتاج الى المال والاستقرار في الداخل. فلا ضير إذاً من مرحلة من
الهدوء المؤقت للانطلاق بوتيرة أكبر فما يزال البرنامج النووي يتطور ومثله
البرنامج الصاروخي وبرامج الطائرات والطموح بالهيمنة الإقليمية، أما بالنسبة لدول
الخليج فعدم توفر حليف دولي موثوق يجعل من الصعوبة الدخول في صراعات إقليمية قد
تكلف الكثير بدون نتائج محسومة.
إذاً هناك اسباب عديدة لاندفاع الاطراف
الإقليمية نحو بعضها البعض في عملية تبريد مفتعلة لم تأخذ بعين الاعتبار مصير
المعتدين والضحايا، ولم تهتم بالمسؤول عن القتل والظلم طالما أن غايتها استعادة
الاستقرار المؤقت، والذي لن يحقق سوى تأخير الصراعات مما يبقي الجروح مفتوحة، وهذا
سيؤدي الى زيادة المعاناة واستدامتها الى أجل غير محدد، آمل أن أكون مخطئاً فتاريخ
المنطقة علمنا أن الجروح فيها لا تلتئم بسهولة فهي غائرة في النفوس قبل الجسد، وفي
اللحظة التي سيتوفر فيها حلفاء دوليون مستعدون للانخراط في صراعات المنطقة ستعود
الأمور الى سيرتها الأولى من الصراع والتوتر فالطموح الامبراطوري والتوسعي هو هدف
لثلاث دول رئيسية وهو قادر على تفجير الموقف في اي لحظة.