لا يمكن إخفاء الشاحنات المصطفة على جوانب طرق عديدة في الأردن فهذه الظاهرة أصبحت موزعة على محافظات المملكة، وطالت ايضاً العاصمة عمان وهي تعبير احتجاجي على رفع أسعار المحروقات مؤخراً والذي اعتبروه يمس في الصميم قدرتهم المعيشية واستمرارهم في تلبية أبسط احتياجات أُسرهم بالذات بعد أن استهلكت جائحة كورونا خلال عامين كُل ما لديهم من إمكانيات على بساطتها وباتوا غير قادرين عَلى الإستمرار بهذه الطريقة، لذلك قرروا استخدام ما لديهم من أدوات في محاولة للضغط، هذه هي الحكاية ولا يجب أن تخرج عن هذا الإطار فهؤلاء مثل غيرهم باتوا على الهامش بسبب عوامل كثيرة .
لا شك أن كثير من الناس مصابين بخيبة أمل مما آلت اليه احوال البلد فنسب الفقر والبطالة تتعدى اي امكانية للتصديق والديون تراكمت على الناس وعلى الدولة على حدٍ سواء الى مستوى قياسي غير مسبوق، لدرجة أن الأمل بحلول سريعة بات بعيد المنال فأقرب حلّ لهذا الوضع يحتاج الى سنوات طويلة هذا إذا سُرنا في الطريق الصحيح، وهنا مربط الفرس لقد وُعِد الناس بحلول سحرية خلال عقد ونصف وبلسان رؤساء حكومات عديدة كانت المليارات تتقاطر على ألسنتهم والنتيجة لا شيء فما نراه ونعيشه حصيلة تلك الوعود بل والأمور مرشحة للتصاعد بسبب واضح أن أساليب الحل لم تخرج عن المألوف أبداً وإن شاهدنا بعض المحاولات هنا أو هناك للخروج من المأزق لكن في نهايتها كانت تعود أدراجها إلى الوراء متبنية تفسيرات نخبة منتقاة تريد أن تبقي دائرة صنع القرار في إطار محدد ومنتقى بعناية لا تغادره أبداً .
في الماضي عندما كانت المقايضة تتم بين المواطن وهياكل الدولة المسيطرة على أساس التوظيف والأمن مقابل الولاء السياسي وقد ساعد في نجاحها حينذاك فيض المساعدات الهائل الذي كان الأردن يتلقاه من الدول الخليجية بالذات بعد حرب ١٩٧٣م وهو ما جعل القطاع العام يتضخم بشكل معيق للإنجاز بل وأنشأ في داخله طبقات بيروقراطية متعدد شكلت مراكز قوى بدأت تدافع عن مصالحها أمام كلُ متطفل والأدهى أنه بعد تدني مستوى المساعدات الخارجية بقيت هذه الكتلة الصلبة مكانها راسخة ومسيطرة، ولأن الدولة منذ زمن غير قادرة على إنجاز زيادات واضحة في رواتب هذه الفئات لذلك قرروا القيام بهذه العملية على عاتقهم فأصبحوا يغطون الفوارق بعمليات فساد منظمة استطاعوا من خلال منظومة واسعة من القوانين أن يجعلوا أغلب العمليات الحيوية في البلد تتم من خلالهم لذلك كانت لهم اليد الطولى في كل قرار يُتخذ وتجاوز دورهم حدود عملهم فأصبحت أذرعهم تمتد للسياسيين بل وتنتجهم وتعدهم وتضعهم على سُلم الصعود وإلى الاقتصاديين بحكم سيطرتهم على مفاصل صنع القرار والى المجتمع ولم لا فهم من يملكون ناصية الحلول للكثير من القضايا .
هؤلاء هم من باعت الدولة أصولها لكي ترضيهم وهي تفكر في ابتداع أصول جديدة كي تبيعها مثل إنشاء مدن جديدة ستوفر تدفقات مالية تساهم في إنعاشهم وهم من عطل كل محاولات الاصلاح وسيعطلوها في المستقبل، لتبقى مصلحتهم هي العليا وليذهب الاخرين الى الجحيم.
إذاً الأمر لا يقتصر على سائقي الشاحنات بل هو أخطر من ذلك بكثير في الماضي القريب كانت تتنطع لعمليات الاحتجاج فئات نخبوية تتخذ من دواوير عمان مكاناً لانطلاقها و هؤلاء مداهم معروف أما الآن فنقاط الاحتجاج تنطلق من فئات تبحث عن شيء وحيد هو العيش وهذا الشعار يخفي تحته ما يخفي من الاحتمالات والتدحرجات التي قد تنطلق ككرة الثلج التي لا مجال لقياس حجمها النهائي لذلك فالحل يبدأ من الاعتراف بحقهم في الاحتجاج والجلوس معهم ومناقشة مشاكلهم، ثانياً التوقف النهائي عن محاولات تجميل الحلول والتذاكي على المجتمع إذ لا خيار إلا العودة إلى المعادلة الصحيحة وهي إعادة الحق للمجتمع في الرقابة على الدولة بدون أي رعاية فوقية أو محددات للخيارات فقد بلغ السيل الزبى والطريق ما بعد الشاحنات وعر صحيح أن الدولة حققت ما تريد في احتجاجات المعلمين لكن هنا الأمر مختلف فالطريق بات ممهداً أمام فئات مشابهة لتحذو حذو سائقي الشاحنات بعد أن باتوا يدركون قوة الأدوات التي يمتلكونها ومدى تأثيرها على صناع القرار .
إذاً حان الوقت أن تجهز الحكومات نفسها إما للمواجهة أو الحوار مع مجتمع يدرك قوة أدوات الضغط التي يمتلكها، إذاً فالمعادلة تتغير لكن هذه المرة خارج السيطرة، وبالتالي ستكون النتائج مختلفة عن كل المرات ، وإلا فتحت الرماد نيران كثيرة.