بقلم: الطاهر العبيدي
مرة أخرى تبقى بعض الفضائيات التونسية وبعض الإعلاميين خارج تغطية الضمير، منفصلين عن جاذية الجماهير، منغمسين دوما في برامج الرداءة والوضاعة والانحدار والكتابة ما تحت أسفل الإقدام، كما كان الحال عند استشهاد أحد عناوين المقاومة ضدّ الهوان العربي، وضدّ الصمت الآثم، وضدّ النقاش المفروم، وضدّ كل أصناف الهباء المنثور، "الطيّار"، والمخترع التونسي المولد والنشأة والإنتماء للوجع العربي، شهيد فلسطين أرض الإسراء والمعراج، المنتسب لشرف الأمة، والمنحاز لشعب الجبّارين، شهيد الرّفض والتحدّي لمنطق الاستسلام بالجملة والهزائم بالتقسيط، "محمد الزواري" الذي كان يشتغل في صمت دون ثرثرة، دون ثغاء، ودون سعال، بعيدا عن فضائيات الرقص والرّجس، بعيدا عن صحافة الخضوع وإعلام البطون..فكان وحده كتيبة مقاومة، وسربا من طائرات الأبابيل، التي كانت صداعا في رأس الاحتلال، وأرقا في عيون كل الذين عقدوا صلحا دائما مع الهوان، وركلة سفلى لكل المنظرين لاستباحة الشرف والعرض والتاريخ والتراب، وصفعة ذل للصحافة المنتهية الصلوحية والرصيد..نيابة عن كل القمم الحدباء، نيابة عن كل القرارات الجدباء نيابة عن كل الحوارات العرجاء، نيابة عن كل مصطلحات الرماد، التي تجترّ منذ أعوام وطيلة سنوات، حتى صارت تثير الامتعاض والاشمئزاز : "ضبط النفس"- زيارات مكوكية - "تحريك المفاوضات"- " تجميد المستوطنات"- مبادرات - اجتماعات- مشاورات - احتجاجات...وما شابهها من هذه المصطلحات المنفصلة عن حقائق الأرض وواقع الأوضاع.. نيابة عن كل حالات الكساد والثلوث في المفاهيم والأفكار، كان "محمد الزواري " وحده فرقة حجارة من سجيل.. كان بمفرده قافلة فرسان، كان وحده سرية من سرايا الأحرار.. كان استثنائيا في الإنقلاب ضدّ حالة التثاءب والتوكإ على أعواد الانتظار.. وحده كان كتيبة من الصقور التي لا تروم العيش في الحفر وترفض الانطواء في الجحور
عذرا "محمد الزواري" فقد أعلنت تلفزتنا الوطنية المنزوعة المهنية والحياء خبر استشهادك ببرودة تلامس التجمّد والصقيع، واصفة إياك بأنك الهالك القتيل..عذرا يا ابن مدينة "صفاقس" يا ابن تلك التربة الخصبة القادرة على إنجاب الرجال، فأنت الشهيد ودماءك سمادا للأراضي العربية المصابة بالجفاف، من أجل تخصيبها وحمايتها من التصحّر والانجراف، وذاك إعلام الصغائر والوضاعة والإنحدار.
عذرا "محمد الزواري" أنت الشهيد عنوان شرف الأمة، وذاك إعلام هالك كسيح.. عذرا "محمد الزواري" فأنت الشهيد الذي حرّك الوعي، واستعاد هيبة الضمير، وذاك إعلام الملاعق والصحون..عذرا يا ابن "الخضراء" ، يا ابن " تونس" التي رفعت الهامات والرؤوس، فأنت المخترع الصاحي الذي آمن بالفعل والتغيير، والمؤثث عقله وفكره بالعلم والمعرفة وحجة البيان، وذاك إعلام بائس وضيع منحازا لصحافة الشعوذة وأخبار الملاهي وثقافة البطون..عذرا " محمد الزواري " فأنت الشهيد المتدثر بنبل القضية، التي تمثل نبض الجماهير، وذاك إعلام مقعد كسيح.. فشكرا يا ابن التاريخ والأجداد فأنت من أعاد ترتيب الأوليات، لتكون " فلسطين " كما كانت وستبقى الهاجس الأول المستيقظ في الصدور.
فشكرا " محمد الزواري " فأنت الشهيد الذي سيبقى وشاحا تونسيا مرصّعا بالعزة والكرامة و منقوشا على صدر التاريخ.
شكرا "محمد الزواري" فأنت الشهيد الحي في الذاكرة والعقول، وأنت الشهيد الذي سيظل صاحيا في الأذهان في الأفكار وعلى مر السنين
شكرا "محمد الزواري" فأنت الشهيد مثلك مثل كل شهداء الأمة، الذين خصّبت دمائهم أرض فلسطين، لتكون أسمائهم فوانيس تنتصر على ظلمة الطريق، وتظل آثارهم حلما مرفرفا في الوجدان وفي الصدور وعذرا مرة أخرى يا ابن بلدي، فأنت الشهيد الحي الصاحي في القلوب وفي الشعور. ومن نعتوك بالهالك والقتيل هم الأموات ولكن لا يشعرون.. فكم هم اللذين يدبّون على الأرض وهم أموات، إنهم ميتوا الإرادة والإحساس، متغيبون عن الفعل والانجاز .