بقلم: م. عبدالرحمن
"محمدوليد" بدران
نشعر أحياناً بأن أمراً ما ربما سكن
أرواحنا، لكننا أمام أمر لطالما شعرنا بأننا لا يمكن أن نوفيه حقه مهما كتبنا
وتحدثنا فيه، يروى أن عجوزاً كان له عدد من الأبناء يزورونه ويهتموا لأمره، لكنه
كبر ومرض وأصبح من الضروري أن يرعاه أحد أولاده، فاختار أصغر الأولاد أن يتفرغ
لرعاية والده لكن إخوته خافوا أنه يفعل ذلك طمعاً في مال أبيهم، فاشترطوا عليه
توقيع تنازل عن ميراثه في حال وفاة أبيه، إحتار الابن لكنه وافق في النهاية حتى
يتفرغ لوالده طمعاً في رضاه عنه وعاش لخدمته والبر به حتى توفى وعندها أخذ إخوته
الميراث ولم يعطوه شيئاً منه، وفي ليلة شاهد الابن الأصغر والده يخبره في المنام
أنه يخبأ له مبلغاً من المال وأخبره عن مكانه فذهب ووجد المال بالفعل في المكان،
لكن إخوته عادوا وأخذوه منه بحجة أنه تنازل عن حقه في مال أبيه، فرأى والده بعدها
يأتيه من جديد في المنام ويخبره أن هناك ديناراً خبأه له وأخبره بمكانه، ذهب ليجد
الدينار بالفعل فسخر منه إخوته وتركوه يأخذه، وفي اليوم التالي شاهد صياداً في
طريقه للمنزل فاشترى منه سمكتين بذلك الدينار وعاد بهما للمنزل، وكانت المفاجأة
عندما قامت زوجته بتنظيف السمكتين لتجد فيها من اللؤلؤ ما فاق قيمته ميراثه من
أبيه فسبحان من يعطي ويمنع !
يقول أحدهم: من أعطى أولادي تمرة نزلت
حلاوتها في فمي، ومن حدثهم بالطيب جعل غلاوته في قلبي، ومن ابتسم في وجههم رأيته
دوماً من أجمل الناس، كلمات عايشناها بأنفسنا وربما عايشها كثير ممن يمر من بين
هذه السطور حقيقة واقعة عن شعور الأب تجاه من يتعامل مع أولاده بالعطف ويحنو
عليهم، فتجد أول رد تلقائي منه ابتسامة الرضا التي ترتسم على وجهه فرحاً بذلك.
ذلك الأب الذي يقضي حياته وهو يبذل كل
جهد لإسعاد أولاده في حياته وتأمين ما يساهم في ذلك حتى بعد رحيله عن هذه الدنيا
تاركاً لهم اسمه ملازماً لهم ولأرواحهم بقية حياتهم.
ذلك الأب الذي مهما فعلنا لن يسعنا أن
نوفيه حق ما أفناه من عمره من أجل سعادتنا ونومنا براحة وهناء بال، والذي تحمل كل
شيء في سبيل أن لا نشتهي شيئاً في حياتنا إلا ويكون بين أيدينا بقدر استطاعته
وربما أكثر من ذلك أحياناً كثيرة.
ذلك الأب وتلك الأم التي لا تقل شأناً
عنه عندما يسكن الروح حبهما والبر بهما فحتماً سيحضران معنا في كل لقمة نأكلها، في
كل ضحكة نضحكها، سنراهم مع كل رمشة من رمشات أعيننا ماثلين أمامنا يذكروننا بكل
تلك اللحظات الجميلة في حياتنا، بكل تلك اللحظات التي كنا نرتمي فيها في أحضانهم
بحثاً على شعور الأمان والاطمئنان، بكل تلك اللحظات التي كانت أياديهم الدافئة تمر
بها على أعيننا لتمسح لنا دمعة لتبعث الأمل فينا من جديد، وبكل تلك اللحظات التي
كان يغمرنا فيها الفرح معهم وكأننا ملكنا الدنيا وما فيها.
نعم عندما يسكن الروح حب والدينا لا
يمكن لقوة على وجه الأرض أن تنزعه منها، بل ويصبح وجودهما روحاً جديدة لهذه الروح
تبعث فيها الأمل والفرح والسعادة حتى آخر نفس لنا في هذه الحياة.
لعل هناك من يقرأ هذه السطور من يحن
لقبلة يطبعها على جبين أو يد والديه أو أحدهما ممن رحل عن هذه الدنيا أو مازال
يعطر حياته بوجوده فيها، أو ربما تشتاق روحه لسماع تلك الجملة التي لا توازي كنوز
الدنيا "الله يرضى عليكم يا إبني أو إبنتي"، وفي المقابل لعل هناك من هو
أبعد ما يكون عن والديه حتى ولو كانوا يجلسون حوله وما أعظم خسارة مثل هؤلاء ممن
يفرط في باب من أبواب الجنة.
وفي الحقيقة أننا وجدنا أنه من المناسب
أن تكون هذه السطور خاتمة مقالاتنا للعام الميلادي الحالي ممزوجة بأصدق الأمنيات
أن يجعل الله أعوامنا القادمة أعوام خير وبركة وهناء بال، وأن يرحم من رحل من
أحباب قلوبنا من آبائنا وأمهاتنا ويحفظ من بقى عطره يغمر أيام حياتنا منهم ويعيننا
على برهم ولو بكلمة في حياتهم أو بعد رحيلهم، وأن يجعل من ذرياتنا من يذكرنا
بالخير والبر في حياتنا وحتى موعد لحاقنا بوالدينا أو لحاقهم بنا.