بقلم: د. حفظي اشتية
ــ القضاء ميزان العدل، وملاذ المظلوم، ونصير الضعيف، وضمير الأمم.
والجامعات منارات الهدى، ومنصات التغيير والتقدم نحو العلى، وحصن قوة
المجتمعات.
وليست المقالة معنية باستعراض أهمية القضاء، فتراثنا العربي الإسلامي
زاخر بهذا الحديث، وقد كثر فيه الترديد، فجاز عليه التذكير بقول كعب بن زهير:
ما أرانا نقول إلا رجيعا ومعادا من قولنا مكرورا
وليست معنية أيضا بالإسهاب في الحديث عن أهمية الجامعات لأن ذلك من
باب إثبات طلوع الشمس في وضح النهار.
ــ إنها معنية بالإشارة إلى وجود مظلمات في بعض الجامعات، تمس الحقوق
الوظيفية والإنسانية والمادية لبعض الأساتذة، صبروا عليها طويلا، وطالبوا بها
بالأساليب الإدارية السليمة التي تليق بشخصية الأستاذ الجامعي وأخلاقه ووظيفته
وسمعته، لكنهم يئسوا من الحصول على حقوقهم في جامعاتهم، فانطلقوا نحو لجان التربية
والتعليم في مجلس الأعيان والنواب، وإلى الوزارات والهيئات الرقابية، فعزّ عليهم
الوصول إلى الحق، ولم يبقَ أمامهم إلا القضاء.
ــ مضوا مكرهين لأن مهمتهم المقدسة يجب أن تجعلهم بمنأى عن الخصومات،
ويجب أن تنحصر جهودهم في ارتقائهم الوظيفي والبحثي، وأن تفرغ طاقاتهم الإيجابية في
خدمة طلابهم ومجتمعه ووطنهم وأمتهم.
لكنه الظلم الذي جبلت عليه بعض النفوس، لا يدع المسالمين وشأنهم،
فيضعهم أمام الاختيار المرّ: إن لم تكن معي، فأنت ضدي، بل أنت عدوي، وسوف أقعد لك
كل مرصد، وأضايقك بكل حيلة، وأهددك بكل وسيلة، وألفق لك كل تهمة، ولن يعجزني شيء
عن ذلك، فاللجان جاهزة تحت يدي بالترغيب والترهيب، وما أسهل عندي أن ينقلب الحق
باطلا والباطل حقا!!!
وهنا يتساقط الكثير من المظلومين فيخضعون تحت وطأة لقمة العيش، ورزق
الأولاد وتعليمهم وعلاجهم، فيهادنون أو يتراجعون أو يغيرون مبادئهم فيمالئون
ويتملقون.
ــ وتصمد فئة أخرى على حقوقها ومبادئها فتلجأ مرغمة إلى القضاء، رغم
صعوبة هذا القرار، وخطورة هذا الاختيار على أمنها الوظيفي. تقتطع من قوت أبنائها
للوفاء بالالتزامات الباهظة للتقاضي بعد خسارتها جزءا مهما من رواتبها، ويصبح همها
منصبا على متابعة المحامين والجلسات، يصاحبها دائما قلق ممضّ ينغص عليها حياتها،
فهي الطرف الأضعف، والجامعة قوية مقتدرة بيدها الأوراق والأختام والشهود واللجان
وقوة التأثير، فأين المفر؟!
المفر إلى الله العادل في السماء أولا، وإلى من ائتمن على العدالة في الأرض، وما
أظنهم بغافلين عن ذلك.
إنها مصائر الناس وأرزاقهم وسمعتهم ومستقبل أبنائهم بين أيديهم، كلها
أسيرة لقراءة ملفات القضايا قراءة متأنية متبصرة حكيمة ذكية، لالتقاط الحق من بين
ركام الباطل.
إنهم يتذكرون أن هذا المظلوم مرهون بقرار قاض نزيه قوي منصف، وأن قلمه
الذي يجري بالتوقيع سيكون له أثر عظيم، وسيجعل المظلوم الذي يخسر قضيته نتيجة
تلبيس الخصوم، في موقف عصيب ، واختيارات بين المرّ والأمَرّ:
هل يتنازل عن حقه ويعود يائسا بائسا مكسور الخاطر إلى عمله؟؟ وكيف له
أن ينهض بمهمته وهو محبط مهموم مغلوب على أمره ؟ هل ينحرف ويساوق ركب الباطل ؟ هل
يلجأ إلى الأساليب العوجاء الشوهاء ؟ هل يخرج عن طوره ويتصرف بما لا يليق بمثله ؟
إن بعض الناس بما جبلوا عليه من إباء الضيم قد يفضل الموت على هذه
الرجعة المهينة، فإلى من يلجأ بعد القضاء ؟ وإلى من يشكو همه المؤلم القاهر وضياع
حقه الأبلج الظاهر ؟
لم يبق إلا الله " فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله إن
الله بصير بالعباد. فوقاه الله سيئات ما مكروا...." .