بقلم: م. عبدالرحمن
"محمدوليد" بدران
تقول إحداهن وهي تروي قصتها: تعرضت
لحادث سيارة في أحد الأيام قلب حياتي رأساً على عقب، تحولت بعدها لإنسانة مقعدة
بعد أن تحطم قفصي الصدري بالكامل، وجاء الطبيب ليخبرني بأن إصابة العمود الفقري لن
تسمح لي بالمشي مرة أخرى، ثم أخبرني بأنني لن أتمكن من الإنجاب في حياتي، ليغلب
السواد كل أفكاري يومها حتى أنني بدأت أتساءل عن سبب وجودي في هذه الحياة!
وفي يوم من الأيام طلبت من أخوتي إحضار
ألوان وأوراق رسم لي للمستشفى، أريد أن أرسم بيداي المشوهتين فقد مللت من المرض
والمرضى وشعور العجز الذي يحيطني من كل جانب، وكانت أول رسمة رسمتها وأنا على فراش
العاجز الذي ينتظر ساعة مغادرته للحياة، لم يرى أحد اللوحة إلا وانبهر بها فقد
جعلتها ملخصاً لقصة حياتي بكل ما تحمل من حزن وألم داخلها لا يشعر به إلا راسمها،
ويومها قررت أن لا أموت قبل ساعتي!
نعم قررت أن أعيش حياتي حتى آخر لحظة
فيها، أخذت ورقة وكتبت فيها كل مخاوفي لأتغلب عليها واحدة تلو الأخرى، وكان من أهم
مخاوفي أنني لن أكون أماً أبداً في حياتي وهو ما كان كافياً لتدمير نفسي، ولكني
أدركت أن هناك ملايين الأطفال الأيتام حول العالم ممن يتمنون أن يهتم بهم أحد
ويعطف عليهم، فسارعت للتسجيل في العديد من دور الأيتام منتظرة دوري بدلاً من
البكاء على الاطلال، حتى جاء اليوم الذي تم إبلاغي فيه عن طفل يحتاج لمن يقوم
برعايته ويتكفل به فكادت الأرض لا تسعني من السعادة يومها، وقررت أن أخرج إلى
الأماكن العامة بالكرسي المتحرك لأواجه مخاوفي وأعيش حياتي حتى وإن رفضني كل من
حولي، فقد قررت أن لا أدفن نفسي قبل مغادرتها لهذه الدنيا، بدأت أرسم، انضممت
للتلفزيون الوطني وعملت كمذيعة، حتى أصبحت سفيرة للنوايا الحسنة لبلادي في الأمم
المتحدة عن حقوق المرأة والطفل، ليتم اختياري بعدها ضمن أفضل 30 امرأة في مجلة
فوربس للعام 2016، ذلك لأنني قبلت نفسي كما هي وتفاهمت معها على شئ واحد، لن
نستسلم للعجز، سننجح ونحقق المستحيل، نعم نستطيع ذلك فهذه الحياة هي مجموعة من
الاختبارات والاختبارات لم توجد لتكون سهلة أبداً، وما عليك سوى الاختيار بين ان
تنجح في اختبارك أو تختار طريق البعد عن النجاح، ليس هناك بأس من البكاء، من
الخوف، من عدم النجاح في حياتنا مرة ومرة ومرات، ولكن الأهم أن لا يكون الاستسلام
خياراً لنا في حياتنا أبداً.
هي واحدة تلك الحياة التي سنعيشها فإما
أن نعيشها مستسلمين للحظات الألم فيها، أو نجعل من كل لحظة من تلك اللحظات جسراً
يأخذنا للأمل والسعادة في حياتنا.
خرج عروة بن الزبير رحمه الله وكان من
أعلام التابعين في زمانه في رحلة لزيارة
الخليفة في الشام، وكانت من أجمل الرحلات في حياته مما رآه من حفاوة وتكريم من
الخليفة، لولا أنه فقد فيها ولده بعد أن رمحته دابة في إسطبل الخليفة، ثم ما كاد
يدفن ولده حتى أصاب الورم أحد قدميه ولم يكن أمام الأطباء خياراً سوى بتر ساقه
بالكامل لمنع انتشار الورم في جسده، فكان يقول: أعطاني الله أربعة من الأولاد فأخذ
مني واحداً وأبقى لي ثلاثة، فالحمد لله، وأعطاني أربعة أطراف فأخذ مني واحداً
وأبقى لي ثلاثة فالحمد لله، فوالله لو أخذ مني قليلاً فقد أبقى لي كثيراً ولئن
ابتلاني مرة فلطالما عافاني مرات فالحمد لله، وقد أخبروه يومها عن رجل فقد بصره
كان يقول عن سبب فقدانه للبصر: لم يكن رجل أوفر مني مالاً وأكثر أهلاً في قومي،
فنزلت يوماً مع أهلي ومالي في بطن وادي فباغتنا سيل لم نر مثله قط، وكان أن ذهب
السيل بكل ما معي من أهل ومال، ولم يبقى لي سوى طفل رضيع وبعير واحد، فهرب البعير
مني فما كان مني إلا أن وضعت الطفل على الأرض لألحق بالبعير، ثم ما إن تحركت إلا
وسمعت صرخة الطفل ورأسه في فم ذئب وهو يأكله وقد أتى عليه، فحاولت اللحاق بالبعير
فلما دنوت منه ضربني برجليه على وجهي ضربة ذهبت ببصري، فأصبحت في ليلة واحدة بلا
أهل ولا ولد ولا مال ولا بصر!
هي واحدة حياتك التي تعيشها، لن تعيشها
أكثر من مرة واحدة، ولكن تذكر في لحظات جوعك أن هناك من يبحث عن طعامه في القمامة
ولا يجده، تذكر في لحظات البرد أن هناك من يتمنى لو أن له لحافاً ليتغطى به من شدة
البرد، وتذكر وأنت في لحظات الألم بأن هناك من لم يعرف في حياته سوى لحظات الألم
والأسوأ أنه لم يكن محظوظاً مثلك ليعرف بأن هذا الألم هو كرم من الله عزوجل ليسقط
عنه من خطاياه أو يكتب له المزيد من الأجر والثواب ورفعة الدرجات، لتعرف حينها
بأنك مازلت وستبقى دائماً أفضل من غيرك بكثير، لتبقى ممتناً لكل هذا الكرم الذي
يكرمك به خالقك عزوجل وتعيش حياتك وتستمتع بها حتى آخر نفس لك فيها.